الظاهرة «الفيّونية»
سوسن الأبطح
ينطلق فرنسوا فيّون في السباق الرئاسي الفرنسي كالسهم الخارق الذي لا يستطيع أن يوقفه أحد. على عكس كل التوقعات، أطاح الرجل بمنافسيْه الكبيرين، بضربات موجعة. أزاح ساركوزي الذي كان تكرارًا رئيسًا لوزرائه، حتى وجد نفسه مجبرًا على الاعتزال. ويبدو أن آلان جوبيه، مع أن الدلالات كانت تشير قبل أشهر إلى تفوقه، لن يصمد في وجه الظاهرة «الفيّونية» هو أيضًا. فرنسوا فيّون يتقدم، ويكسب دائمًا بفارق كبير وهو ينازل خصومه، ويبدو الأكثر قدرة على الإقناع وحصد الأصوات في صناديق الاقتراع.
عاشق سباق السيارات انطلق وهو يركّز جيدًا على الهدف. فيّون الذي يعرف كيف ينحني أمام العاصفة، حين تهب عكس ما يتمنى، استفاد بحنكة من خبرته كوزير للشؤون الاجتماعية، ليبني رؤيته الانتخابية وفقًا لحاجات الفرنسيين وتوقعاتهم. من راهن على أنه مجرد ظل لساركوزي ولا يختلف عنه، وجد فيه، في النهاية، معارضًا في العمق لمن عمل معهم، مع أنه بدا في حينه متسقًا وإياهم.
قصر نظر ألا نرى، نحن العرب، في فيّون الهادئ الرصين، سوى صديق للرئيس بوتين، ومؤيد لعلاقات أكثر دفئًا بين فرنسا وروسيا. مجرد اجتزاء أيضًا ألا نقرأ في مشروع المرشح الرئاسي الفرنسي القوي غير رغبته في إعادة فتح سفارة بلاده في دمشق، و«حوار مع إيران على علاّتها»، ومراجعة سياسة هولاند تجاه سوريا التي في رأيه لم تجلب أي سلام أو انتصار. الفرنسيون معنيون بالسياسة الخارجية لبلادهم، واستعادة دورها في العالم، لكن الناخب يريد في البدء عملاً يأكل منه خبزًا، ومعاشًا تقاعديًا، وأملاً لأولاده. ينتظر المواطن من رئيسه أن يمنحه أمنًا، وتعليمًا أفضل لأطفاله، ونظامًا صحيًا متوازنًا.
سيذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع وهو يتذكر تهديد إردوغان بأنه سيفتح شواطئه، ويترك الحرية لثلاثة ملايين لاجئ يجتازون البحر صوب أوروبا، سيقترع فقط لمن يقنعه بأن بمقدوره أن يعيد له شيئًا من كرامته المهدرة، ويهدئ قلقه المستعر من الانهيارات المالية المتوالية. ليست قضية الفرنسي ما يلهب قلوب السوريين والعراقيين، ويحرق أجساد أطفالهم، إلا بقدر ما يشكله ذلك من تهديد ليومياته.
جريء، قوي، ذكي فيون، وليس مغامرًا على الإطلاق، كما يظن البعض، رغم أنه يجازف بعرض برنامج غير شعبي، ومن المفترض أنه منفّر لناخب تقليدي. تغيّر الفرنسيون كثيرًا، وتبدلت أمزجتهم. من كان يعتقد أنهم يتقبلون مرشحًا يقول لهم صراحة إنه سيمسّ بأغلى ما اعتزوا به، وناضلوا من أجله، وتغنّوا بأنهم به يتميزون عن جيرانهم، الإنجليز تحديدًا!
هذا مرشح يقول لهم بصوت واثق: بأي نظام اجتماعي فاشل تتغنون.. بنظام أنجب ستة ملايين عاطل عن العمل وملايين آخرين بلا مدارس؟! اذهبوا وانظروا حولكم، لتكتشفوا عوراتكم؛ ويقبلون. مرشح يصارحهم بأنه سيقلص 500 ألف وظيفة رسمية، ويترك للشركات حرية التفاوض مع موظفيها على رفع ساعات العمل، وأنه ما عاد بمقدوره أن يفرض على أرباب الشغل شروطًا قاسية كي لا يقيلوهم حين يشاءون، أو يبقي الضرائب على المستثمرين مرتفعة كي لا يهربوا إلى جنّات أخرى أقل كلفة، ومع ذلك لا يعترضون. يختار الناخبون فيّون، رغم أنه يريد رفع سن التقاعد، وتقليص الغطاء الصحي، وربما خفض عدد الشرطة.
استفاد الرجل حتى الثمالة من حذر آلان جوبيه، وعورات برنامجه المهادن، وراح يسدد ضرباته. قال للفرنسيين: «لا تخافوا.. برنامجي الانتخابي صعب، وإصلاحاتي جذرية، لكن وضعنا ليس بالسهل. نحن على أبواب ثورة اجتماعية، وإذا لم تظهر نتائج ملموسة بعد ثلاثة أشهر من تسلم الرئاسة، يُخشى أن نذهب إلى مزيد من التطرف».
لا مزاح مع فيّون وهو يدعم برنامجه بالأرقام الدقيقة، والمهل المحددة الصارمة. سنتان لتقويم الاعوجاج وعمل الإصلاحات، خمس سنوات لخفض عدد العاطلين عن العمل إلى النصف، لتتساوى النسبة مع الجيران، وعشر سنوات لتصبح فرنسا أقوى بلد أوروبي لمرة جديدة. هكذا يخطط المرشح ضمنًا لولاية ثانية أيضًا، حتى قبل أن يصل إلى الأولى.
جوبيه الراغب في إصلاحات هادئة، تدريجية، لا تصدم، ولا تجرح، وجد نفسه مجتاحًا بطروحات خصم عنيد، يعرف أن السيل بلغ الزبى، وهو يعدّ عدّته منذ 3 سنوات. ولم يخف الرجل أنه بدأ يجوب فرنسا وحيدًا، وها هو يجد نفسه مؤيدًا من ملايين الفرنسيين. في الطريق، استطاع فيون أن يعمل على برنامج من واقع الأرض، بالتعاون مع 6 آلاف شخص، هذا ما قاله، وليس لنا إلا أن نصدقه ما دامت النتائج مفاجئة.
لا يهمه اتهامه بأنه «محافظ»، أو آت بأفكار من «العصور الوسطى». يصرّ على هوية فرنسا الموحدة التي يرفض أن تكون تعددية، ويريد للضيوف أن يذوبوا في المجتمع الذي يأتون إليه، لكنه في الوقت نفسه يطمح إلى ثقافة انفتاحية ومعولمة. هذا لأن المرشح الذي يقترب من الإليزيه لا يعترف بأزمة هوية لستة ملايين مسلم في فرنسا، بقدر ما يرى المعضلة في معاناتهم من البطالة وقلة المداخيل.
فرنسوا فيّون هو مفاجأة الانتخابات الفرنسية، قد لا يكون الخبر سارًا للعرب، أو بعضهم، لكنه على الأقل قد يدرأ شر زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبان التي يتوقع أن تكون منافسته الأشرس في الدورة الثانية. فبين الكراهية والتطرف أو المحافظة والتشدد، يبقى الخيار الأخير أرحب وأرحم. بين جوبيه ولوبان، يميل الفرنسيون للثانية، رغم عوراتها، لينجوا من خطاب قديم أنهكهم. فرنسوا فيون لمن يحبه أو يكرهه هو الوصفة الفرنسية الوحيدة المتبقية لمنع خطر التطرف من بلوغ كرسي الرئاسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية