الطغاة يرحلون أيضا
فرج عبدالسلام
وفاةُ ديكتاتور زيمبابوي السابق اليوم قدحت الذاكرة مجدّدا حول مقال لي عام 2007 … بعنوان “تفكيك الخوف في زيمبابوي” ولأن التشابه واضحٌ في مصيبتي زيمبابوي وليبيا، فقد كان القصد من المقال حينها (بما أتيح لنا من هامش نقد للنظام) بالدرجة الأولى توصيلَ رسالةٍ رمزية إلى الأخِ الأكبر في بلدنا وإلى طغمته الحاكمة، وتذكير الناس بمصائرِ الاستعباد، ولوجود تشابه شبة كامل في الحلتين الزيمبابوية والليبية حاولنا التذكير بالتفاصيل… لكن مسيرة التاريخ بيّنت لنا أنّ الطغاة لا يفهمون، ولا يتعظون، ولهذا تكون نهاياتُهم مأساوية، بعدما يخرّبون البلاد والعباد…
المقال:
مثلما تعاني الثقافة العربية من موروث اجتماعي تأسس في مجمله على القهر والتسلط، فغلّف بالضباب والبشاعة كل مناحي حياتنا بدءا بالعائلة التي غالبا ما يشَوّهُ فيها منطق العيب والامتثال للسلطة الأبوية المقدسة، مرورا إلى المؤسسات التعليمية الهزيلة بكافة مستوياتها والمكملة لمسيرة استبداد العائلة، وصولا إلى الحياة العامة حيث لا تسمحُ السلطات المستبِدة لرعاياها بالتعبير الحقيقي عن كينونتهم وذواتهم، لأنهم في نظرها ليسوا سوى أدواتٍ وأرقام وكائنات تسبّح بحمد الحاكم، في الوقت الذي ترفل غالبية هذه الرعية في نعيم الأمية والجهل والفقر وما يستتبعها من تخلف، وبالتالي لا يكون لدي الجموع المنقادة أملٌ ورجاءٌ سوى أن يكون المستبد عادلا! نشهد هذه الأيام وضعا مماثلا في دولة زيمبابوي، وإنْ يكن بشروط، وفي ظروف مختلفة قليلا، فقد بدأ الشعب الزيمبابوي ما قد نسميه عملية تفكيك لمنظومة الخوف. ونتابع الآن هذه الملهاة الأفريقية، حيث يتشبثُ موغابي وحزبه بالسلطة ــ رغم خسارته اللعبة التي قبل مسبقا بشروطها ــ وهو لعمري تشبثٌ عبثي بكل المقاييس، سنحاول قدر الإمكان شرح جانب العبث فيه.
لابد وأن أفكارا مماثلة راودت الكثيرين منا ونحن نتابع أحداث زيمبابوي التي عاث فيها فسادا نظامُ حكمٍ قمعي متسلط، فصارت البلاد أثراً بعد عين، ينعق البوم على أطلالها، وهي التي كانت إلى عهد قريب الدولة الأكثر غنى وازدهارا في الجنوب الأفريقي، وسلّة غذاء لكافة بلدان المنطقة، فتحوّل مواطنوها إما إلى مهاجرين في البلدان المجاورة، أو عاطلين متسولين لقمة العيش في وطنهم، أو مهجّرين داخل البلد بعد تطبيق نظام إزالة العشوائيات.
قد يكون لمصلحة البعض في بلادنا تسليط قليل من الضوء على الوضع الجيوسياسي لهذه الدولة الأفريقية، لمحاولة تبيّن جذور المشكلة وأين انحرفت بوصلة نظام الحكم الوطني. يدفعنا إلى ذلك تحرك غالبية الشعب الزيمباوي في محاولته الأخيرة لفك ارتباطه بالمستبد القاهر، حتى لو جاء هذا المستبد في ثوب المقاتلِ والمحرر من الاستعمار، وهو ما كان عليه بالفعل في زمنٍ مضى.
ففي موجة التحرر الأفريقي في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت وبعد أن استقلت روديسيا الشمالية عن بريطانيا من جانب واحد عام 1965 مارست الأقلية البيضاء فيها نظام ميزٍ عنصريّ بغيض، وسلبت الأغلبية من السود حقوقهم، فأشعلت فتيل مقاومةٍ ونضال مسلح مشرّفٍ عاني فيه الشعب طويلا قبل أن يتم التغلب على العنصريين ويسترد مقدرات بلاده التي تحولت إلى دولة زيمبابوي في 1980. وبدأ الحكم الوطني عهده بصراع وصل إلى حد الاقتتال بين الحزبين الرئيسين الذين حققا التحرير وهما حزب زانو، برئاسة موغابي، وحزب زابو بزعامة جوشوا انكومو (هل يذكره أحد؟) فكان أن تحققت الغلبة للأول عندما سيطر على مقاليد السلطة ،وأجبر ما تبقى من مناضلي التنظيم المنافس على حل أنفسهم والانضمام تحت لواء زانو. ثم عانى نظامُ الحكم الوطني مما تتعرض له غالبية الأنظمة الوطنية التي تأتي للسلطة بعد التحرر من السيطرة الأجنبية، فقد جرى العبث بالتركيبة الإدارية والاجتماعية للمجتمع الزيمبابوي تحت عناوين براقة مثل الثورة، والتحرر من الاستعمار، ومطاردة العملاء وأعداء النظام. وتولت زمام الأمور بالتالي مراكز قوةٍ ومجموعات مستفيدة كلُّ همها ترسيخ دعائم سلطتها والاستفادة القصوى من النظام، وبدأت دورةُ القمع والتخويف التي عززها رئيس الوزراء موغابي عام 1987 بتعديل الدستور ليمنح رئيس البلاد سلطاتٍ لا محدودة ثم نصّب نفسه رئيسا للبلاد، وكان أن نجح هو وحزبه في كل انتخاباتٍ أجريت بعد ذلك حتى اليوم.
بشكل ارتجالي قام الحكم الوطني بتنفيذ قانون (الإصلاح الزراعي) أو التخريب الزراعي كما عُرف لاحقا. فبشكلٍ غير مدروس استولت الحكومة على المزارع الكبرى التي كان يديرها البيض لتوزعها على المواطنين وقدماء المحاربين. لكن واحسرتاه، لم يكن هؤلاء المواطنون في مجملهم سوى الوزراء والعسكر ورجالات الدولة والحزب، فأهملوا الأرض وأساؤوا استخدامها، وبدأ يسجلُ انخفاضٌ حاد في الإنتاج الزراعي وهو المصدر الرئيس للدخل القومي إلى جانب السياحة والتعدين، واقترن التقهقر في الإنتاج بعقوبات من المجتمع الدولي والمنظمات الدولية بسبب السجل السيئ للنظام في مجال حقوق الإنسان وقمع جائر لمعارضي الزعيم الأب القائد المحرر، والمعاملة العنصرية للملاك الزيمبابويين البيض.
النتيجة التي بين أيدينا الآن هي تضخمٌ استثنائي لا مثيل له في العالم تعدى نسبة 100,000% ومرشح للزيادة في كل يوم، فالدولار الأمريكي الواحد (على سوء حاله الآن) يساوي 40,000,000 نعم! أربعين مليون دولار زيمبابوي، اقترن ببطالة فاقت نسبتها الحدود، وتعاني البلاد من نقص بالغ الحدة في الوقود والغذاء وصفه البعض بأسوأ أزمة بشرية منذ الاستقلال، اقترنت بحقبة من الجفاف والجدب عمت منطقة جنوب الصحراء الأفريقية، وتفاقم في عهد موغابي وباء الأيدز الفتاك، فأصيب به مواطنٌ واحد من كل خمسة مواطنين. وتكاثفت كل هذه الظروف السيئة لتخفض أعمار المواطنين من 60 سنة كما سُجلت قبل مجيء النظام، إلى 37 سنة للذكور و 34 للإناث الآن (النسبة الأكثر تدنيا على وجه البسيطة)، إلى جانب المصائب والبلاوي الأخرى التي جلبها النظام على مواطنيه من تخريب للسياحة بعد أن كان يزور البلاد أكثر من مليوني سائح سنويا لرؤية معالمها الجميلة ومصب شلالات بحيرة فيكتوريا على نهر الزامبيزي، فتقلصت واندثرت كل الأعمال القائمة على صناعة السياحة وشُرّد العاملون فيها، واختتمت السلطةُ إنجازاتها البائسة بهدم العشوائيات في هيراري وفي مدن أخرى، وهي التي كانت سببا مباشرا في بروزها، دون أن توفر بديلا لقاطنيها، فهُجّر قسريا داخل الوطن نحو سبعمائة ألف شخص وعُبث بحيواتهم.
سنكتفي بهذا القدر من تعداد مساوئ نظام بدأ تحرريا بملامح وطنية وما زال يرفع شعار (الوحدة والحرية والعمل)، فانتهى بعد ثلاثة عقود ليكون جلادا لمواطنيه وجالبا للبؤس والخراب. لكن بغيتنا من طرح هذا الموضوع ليست في الحقيقة إلا تسليط الضوء على جدلية السلطة والعبودية، وطرح قضية “العبودية المختارة” كما عبر عنها لابواسييه (1530ـ 1562) منذ قرون خمسة. ومع التقدير لكل من وقفوا بشجاعة في ظل كل هذا القهر والعسف ليقولوا لا لجلاديهم، فلا يمكننا غض النظر عن النسبة المماثلة الأخرى التي صوتت للزعيم ’الفذ‘ وسياساته التي خربت البلاد والعباد، فقد خرجت نتائج الانتخابات الأخيرة لتمنحه ما يقارب النصف من أصوات الناخبين! مع ملاحظة أن الزعيم قد شاخ وبلغ من العمر عتيا (أربعة وثمانون عاما، رغم أن زهير بن إبي سلمى قد سئم تكاليف الحياة في الثمانين، ورغم أن الأمريكيين يتوجسون خيفة من المرشح الجمهوري ماكين ــ سبعون عاما ــ إذا ما كُتب له الفوز في الانتخابات، سيكون أكبر رئيس أمريكي يدخل البيت الأبيض) وأكمل الزعيم مسيرة طغيانه بوضع عدد من أعضاء اللجنة العليا للانتخابات في السجن لأنهم لم يقوموا بفرز الأصوات كما يجب ومثلما يحدث في السابق، كي يفوز الزعيم وحزبه، فعقليةُ الطاغية لا تستطيع استيعاب أن الجماهير التي قهرها طوال هذا الوقت يمكن أن تنقلب ضده.
لا يمكن التغاضي كذلك عما حدث في السابق في تلك البلاد ومنذ مجيء ’المحرّر‘ موغابي إلى السلطة حينما قامت الجموع طواعية بإعادة إنتاج الطاغية وألّهته ومكنته من مقدراتها طوال ثمانية وعشرين عاما. فترى ما هي المحركات والدوافع التي تجعل الناس يستمرؤون جلاديهم؟ ربما ينير لنا بعض الطريق في هذا المجال أقوال الفرنسي الشاب ، الذي كتب (مقالة في العبودية المختارة) تنطبق الكثير من الآراء الواردة فيها على عصرنا الحالي، ويبين هذا الكتاب كيفية تحوّل الرغبة المشتركة في موضوع يهم الطرفين إلى استغلال فعلي ينقسم فيه المجتمع إلي قسمين، أحدهما يصفه (لابواسييه) باللصوص والقراصنة، والقسم الآخر من أهالي القرى والحرفيين والأجراء الذين يستمرئ الأولون معاملتهم بقسوة ويسومونهم سوء العذاب. وإذا كان لابواسييه قد حلل بعمق وسعة أفق هذه الصلة الشائكة بين الطاغية والرعية بشكل تنطبق فيه تحليلاته على عصره والحقب التي تلته وصولا إلى زمننا الراهن. فقد خلص إلى الأسباب التي تجعل المُستبَد بهم يخضعون لطغيان المستبِد، ولخصها في ثلاثة: أولها تعوّد العبودية، وهو يجد العذر لهذه الفئة إن كانوا لا يرون ضيرا في عبوديتهم ماداموا لم يروا حتى ظل الحرية ولا سمعوا عنها، وأن من طبيعة الإنسان التطبع بما نشأ عليه: “إن من ولدوا وهم مغلولو الأعناق ثم أطعموا وتربوا في ظل الاسترقاق، من دون نظر إلى أفق أبعد؛ يقنعون بالعيش مثلما ولدوا”. أما في الثاني فيقول إن الناس يسهل تحولهم في ظل الطغيان إلى جبناء ويضرب مثلا بحادثة دحر كِسرى لليديين، وعدم لجوئه للفتك بهم بعد ثورتهم عليه، وإنما أتاح لهم تذوق مباهج الحياة ومُتعها فضربت عليهم الذلة والمسكنة وآثروا حياة الدعة، وأغناه ذلك عن استخدام السيف فيهم. ولو أن هذا السبب لن ينطبق كثيرا في حالة زيمبابوي، فلا مباهج ومتع وفرها الطاغية ولا هم يحزنون.
أما السبب الثالث فهو الأخطر والأهم وبه ينعقد للطاغية لواء السيادة فيقول “الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى، ولكنه الحق عينه فهم دوما أربعة أو خمسة يُبقون الطاغية مكانه. أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذنه فيتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلاّن ملذاته وقوّاد شهواته ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع لا بشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة كما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقسوتهم، وليطيحوا بهم متى شاءوا تاركين إياهم يرتكبون من السيئات مالا يجعل لهم بقاء إلا في ظلهم ولا بعدا عن طائلة القانون والعقوبات إلا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك، ومن أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة، وسعه أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل.”
وهكذا فإن الاستبداد السياسي كغيره من الظواهر الاجتماعية، يعد ظاهرة معقدة يتداخل فيها الشخصي مع الاجتماعي وهي خاضعة لاعتبارات الزمان والمكان، وقد حاول كثيرون من المهتمين إيجاد تفسيرات لها. فيقول (إريك فروم) إن المستبد يمارس السادية ـ التلذذ بإيقاع الأذى بالآخرين ـ لأن المحرك لسلوك المستبد هو دافع السيطرة وأن “متعة السيطرة التامة على شخص آخر هي ماهية الدافع السادي” ويشرح العلاقة بين الطغيان (السادية) والخضوع (المازوخية) باعتبارها تعبر عن حاجة متبادلة أطلق عليها (السادومازوخية): فخلافا لما يبدو يحتاج الطاغية إلى موضوعه “بشدة مادام شعوره بالقوة يكمن في واقعة أنه سيّد لشخص ما، وهو قد لا يعي هذه التبعية على الإطلاق! كذلك يحتاج الخاضع بشدة إلى سيده مادام شعوره بالقوة كامن في أنه خاضع لشخص ما.” ووصف فروم هذه العلاقة بـ “التكافل”
لكن لابواسييه ركز على المستبد بهم (المازوخيين) أكثر من المستبدين (الساديين). فقد لاحظ أن جانب الخضوع في الظاهرة أكثر من جانب الإخضاع؛ لذلك تساءل عن سر انصياع هذا العدد الكثير من الناس لطاغية فرد والاستسلام له بالكامل. فيقول: “كيف أمكن لهذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يتحملوا طاغية واحدا؟”. ولم يدهشه فعل الإكراه الذي يمارسه الطاغية، بل فعل الرضوخ والانصياع من أفراد المجتمع لأوامر المستبد هو مصدر حيرته، فيخاطبهم بقوله: “.. كل هذا الخراب، هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم بل يأتيكم على يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره، والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده. هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، ولا يملك شيئاً فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم، التي لا يحصرها العد إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم. فأنى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ أنى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطئكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم؟.. “
يطول الحديث في هذا الموضوع الشائك، وأترك للقارئ الغوص طويلا في أعماق نفسه أو نفسها عن صفات المستبد أو المستَبد به، فربما يساعدنا هذا الغوص الذاتي في فهم أنفسنا وبالتالي فهم هذه الأحجية المعقدة، ولكني لا أملك إلا موافقة المفكرة رجاء بن سلامة في تساؤلها الحزين والمشروع حين تقول: “لماذا تتحوّل كلّ تجارب الحرّيّة الجميلة إلى بوتيكاتات لقضاء المصالح وبناء التّحالفات وإنتاج ’الواحد‘ المتألّق في صيغة مفردة أو متعدّدة، المتألّق بمجرّد النّطق باسمه أو عرض صورته؟”