الضرورة والمصادفة لدى ابن خلدون
عمر أبو القاسم الككلي
ابن خلدون (732هـ/ 808 = 1321/ 1406) علم من أعلام الفكر الإنساني، أكبر من يُعرف به بين المثقفين المهتمين بالعلوم الاجتماعية على مستوى العالم.
ويصفه كثير من الباحثين والمثقفين بكونه “مؤسس” علم الاجتماع. وفي رأيي أن تعبير “التأسيس” في هذا السياق، غير دقيق، إن لم يكن خاطئا.
ذلك أنني أفهم التأسيس على أن مفكرا أو عالما وضع أسس علم جديد، وعلى هذا الأساس بني صرح هذا العلم المحدد، او مدت طريقه وتشعبت فروع هذا الطريق. وبالنسبة إلى علم الاجتماع ينطبق وصف التأسيس على أوغوست كونت (1798 – 1857) ، الذي أتاح له ظهوره ضمن إطار حضارة ناهضة، هي الحضارة الرأسمالية الأوربية، التي نهضت بأعباء بنائها الطبقة البرجوازية الصاعدة، أن ياتي بعده علماء اجتماع يواصلون بناء صرح هذا العلم وتوسيع آفاقه.
ما من شك في أن ابن خلدون كان ذا عبقرية فذة مكنته من “اكتشاف” علم الاجتماع، أو “علم العمران البشري”، مثلما أسماه، وهي تسمية جميلة ودالة، ووضعِ أسسه. بيد أن هذه الأسس ردمت وطمرت تحت أنقاض حضارة كانت في طور الأفول والانهيار. وبالتالي لم يقيض لعمله هذا الاستمرار والنمو، بل وحتى العلم به، لدى الذين أجهد نفسه في اكتشافه من أجلهم، وكان الفضل في أن يصبح هذا الكنز جزءا بارزا في الثقافة العربية، للغرب الذي اكتشف المقدمة ونشرها. لكن هذا الكنز لم يعد قابلا للاستخدام في مناخ وإنجازات الحضارة الجديدة التي فاضت على العالم.
ويبدو أن ابن خلدون كان مدركا لهذا الانهيار وواعيا بأنه يُنظِّر بتأثير مناخه، وأن نظريته في فلسفة التاريخ الخاصة بتعاقب الحضارات وأدوارها المغلقة، وما استنبطه من قوانين “العمران البشري” يمكن أن يكون عونا على تنشيط ما بقي من جمر الحضارة المنهارة وإعادة الحياة إليها.
من الممكن، بالطبع، دراسة مقدمة ابن خلدون من جانب تاريخ الفكر الاجتماعي وتاريخ فلسفة التاريخ، وأيضا من وجهة نظر أصول المعرفة epistemology. وهذا ما فعله محمود امين العالم في دراسة مهمة له بعنوان “مقدمة ابن خلدون: مدخل إبستمولوجي”* كتبت سنة 1978.
لسنا هنا بصدد استعراض تحليل العالم لإبستمولوجيا مقدة ابن خلدون، وإنما سنكتفي بتناول نقطة واحدة منها، لعلها أهم النقاط المتعلقة بالجانب الإبستمولوجي للمقدمة.
هذه النقطة التي يصفها العالم بأنها “نقطة البداية في تحديد الأرضية الإبستمولوجية لعالم ابن خلدون هي مفهوم الضرورة عنده أو ما يسميه عادة بالطبيعة أو الطبيعي”
فالضرورة عند ابن خلدون “تمسك بعناصر هذا العالم جميعا، سواء كانت نباتا أو حيوانا أو مجتمعا إنسانيا. وهي تمسك به على عدة أنحاء. فمن ناحية، لكل عنصر من العناصر ‘‘طبيعة تخصه‘‘ وكل حادث من الحوادث ذاتا كان أم فعلا، لا بد له طبيعة تخصه من ذاته وفيما يعرض له من أحواله”. لكنَّ هذه العناصر ليست منفصلة، وإنما هي متداخلة ومتضافرة وتداخلها وتضافرها ناتجان عن قوانين الضرورة، “فلا مجال في هذه الطبيعة للمصادفة (أو ما يسميه ابن خلدون بالبخت أو الاتفاق بالمعى المثالي، أي انتفاء الأسباب)؛ فالبخت عنده هو ‘‘وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية‘‘. المصادفة إذن ليست نقيضا للضرورة، وليست حدثا يتحقق بغير أسباب”
والضرورة في الرؤية الخلدونية سارية وتتضمن في ذاتها قوانينها الخاصة، التي يسميها “عوارض ذاتية” مادية تشمل المجالين الطبيعي والإنساني الاجتماعي، ففي المجال الأخير “تقوم أساسا على أحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات والعمران البشري وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر من أعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”.
بيد أن الضرورة ليست متجانسة، وإنما يعتورها التفاوت وانتفاء التماثل باستمرار. وهذا ينطبق على مواضيع الطبيعة كما على ظواهر العمران البشري، أي من ضرورة النسيج الاجتماعي، ذلك أنه “من ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأعراض” مثلما يعبر ابن خلدون نفسه. “والعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح”. لأن “االاجتماع والعصبية بمثابة المزاج للمتكون. والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر، فلا بد من غلبة أحدهما، وإلا لم يتم التكوين. وهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية”.
* في: محمود أمين العالم، الأعمال الكاملة، مج2، الهيئة العامة المصرية للكتاب. القاهرة. 2015. وجميع المقتبسات المنصصة، بما في ذلك العائدة إلى ابن خلدون، مأخوذة من هذه الدراسة.