الصفقة السياسية.. هل تدعم المصالحة الوطنية في ليبيا؟
218| خلود الفلاح
مما لا شك فيه أن مسألة المصالحة الوطنية في ليبيا تمثل الرغبة الحقيقة لكل الليبيين من أجل تجاوز الخلافات والذهاب إلى دولة مدنية، ولكن كيف يمكن تحقيق المصالحة الوطنية في ظل انتشار السلاح وسيطرة المليشيات وغياب القانون؟ وهل تقوم المصالحة الوطنية على العدالة الانتقالية أم الصفقة السياسية؟
المحاكمة العادلة
تشير الأستاذ المشارك بجامعة بنغازي الدكتورة، أمينة المغيربي، إلى أن الشروع في برنامج المصالحة الوطنية من خلال صفقة سياسية دون معالجة حقيقية لهذا الإرث من الانتهاكات، التي أرهقت الذاكرة الجمعية، من خلال اتباع تدابير وآليات العدالة الانتقالية، ستنتج عنه مصالحة هشة لا تلبي تطلعات أفراد المجتمع في إحلال السلم المجتمعي والاستقرار الدائم والوئام بين أفراد المجتمع ومكوناته.
وتضيف: “ما نحتاجه هو قيادة سياسية واعية تضع وتتبنى استراتيجيات نافذة للشروع في برنامج العدالة الانتقالية، مع برامج تهيئة مجتمعية للشروع في برنامج العدالة الانتقالية، وحوار شامل لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة”.
في هذا السياق، ترفض الحقوقية عزة المقهور، أن تتم المصالحة الوطنية في إطار صفقة سياسية، وتلفت المقهور إلى أن المصالحة الوطنية ذات مفهوم واسع، ولا تقيد بعدالة انتقالية، تقوم على حسن النوايا والوطنية والرغبة الحقيقية في إنقاذ الوطن من براثن العداء والأحقاد والظلم.
وتضيف: “المصالحة الوطنية قد تسير مع العدالة الانتقالية يدا بيد وقد تمهد لها أي تسبقها وقد تكون نتيجة لها، وفي علاقتها مع العدالة الانتقالية تحتاج إلى توفر عوامل عدة؛ منها القضاء النزيه والمستقل، والتحقيقات ذات المصداقية، وسرعة ونجاعة العمل على الملفات ذات العلاقة، ووجود جهاز إداري متمكن وتوفر وسائل شفافة وإعلام مستقل ومتابع، واستقرار أمني لإمكانية أن تأخذ إجراءات العدالة سيرها، لذا فقد يتعذّر توافر كل هذا، فهل تتوقف المصالحة الوطنية؟ الإجابة ببساطة لا”.
وعلى جانب آخر، يعتقد الكاتب أحمد الحسين التهامي أن قيام مصالحة وطنية في ليبيا ليس الآن، وعندما تحين ساعتها؛ ستَقوم على منطق الصفقة السياسية الشاملة وليس على إجراء مقتضيات العدالة.
واستطرد “التهامي”: في أقل تقدير؛ يجب ضمان إجراء صفقة بين الأطراف الثلاثة الكبرى في الصراع السياسي الحربي الذي لايزال حتى اللحظة مشتعلاً ودامياً بالرغم من الهذر الدولي حول إحلال السلام وما إلى ذلك، وهذه الأطراف: سبتمبر وفبراير وكرامة، ولكن لماذا أميل إلى هكذا اعتقاد؟! ألا يستحق الضحايا أن نحصل لهم على محاكمة عادلة للجناة؟! نعم يستحقون أياً كانت انتماءاتهم، لكن حديث الرغبات شيء والواقع المؤلم شيء آخر تماماً، مختلف وبعيد عن منطق العدالة.
مجتمعات غافلة
وتحدثت الحقوقية عزة المقهور عن أن المصالحة الوطنية تتخذ اشكالاً عديدة، قد تبدأ بمصالحات محلية، أو تكون في شكل مسيرة دستورية ناجحة في إنتاج دستور توافقي مثلاً، أو تحقيق انتخابات نزيهة وشفافة ومقبولة، أو حوار وطني حقيقي يتصف بالشمولية والتمثيلية الحقيقية.
وبيّنت “المقهور”، أنه قد يستخدم في المصالحة أدوات تخص المجتمع ذاته، متواترة وتقليدية، وقد يلجأ المجتمع لأدوات جديدة من تجارب أخرى، قد تكون المصالحة أيضاً نتاج تدخل إقليمي أو دولي، لذا فإن المجتمعات الحية والواعية لا تتوقف فيها آلية المصالحة الوطنية، فهي عملية مستمرة ومتجددة ومتجذرة، لها أدواتها التي تشكل صفارات انذار تتوقع الخطب قبل وقوعه وتستعد له. وإن فاجأها تكون لديها الإمكانيات لاحتوائه، أما المجتمعات الغافلة؛ فلا تكون المصالحة الوطنية إلا محاولة لإطفاء الحرائق التي لا تنتهي إلا بخسائر مفجعة.
والدول التي تدخل في حروب مع نفسها أو ما يعرف بالحروب الأهلية هي الغافلة والضعيفة والتعيسة، تلك التي لا ترى النار تلتهم أطرافها، والأنكى من ذلك، محاولتها إطفائها بصفقات سياسية!
من جانبها، أوضحت الدكتورة أمينة المغيربي: منذ العام 2011، والدعوات إلى الشروع في المصالحة الوطنية تجد صداها في كثير من الدوائر السياسية والاجتماعية في ليبيا دون أن تكون لذلك نتائج ملموسة، رغم بعض الجهود المتفرقة من قبل بعض المكونات الاجتماعية لرأب الصدع ولملمة الجراح وتحقيق المصالحة على المستوى الاجتماعي، ولكن نظراً لغياب الإرادة السياسية الفاعلة والمشاركة المجتمعية الموسعة وعدم الاستقرار السياسي؛ لم تؤتِ هذه المحاولات النتائج المرجوة منها.
وبحسب “المغيربي”؛ تهدف المصالحة الوطنية في ليبيا إلى إرساء دعائم السلم المجتمعي بعد فترة التحول من قمع حكم استبدادي خلف إرث كبير من الانتهاكات الجسيمة وما تبعها من نزاعات سياسية وحربية داخل المجتمع الواحد، تفاقمت فيها الانتهاكات وأدت إلى تفكك النسيج المجتمعي وتعرضه لأزمات متلاحقة تعقّد معها إحلال السلام والاستقرار في البلاد.
الصفقة السياسية فقط
وقال الكاتب أحمد التهامي: إذا كان ثمة عشرة آلاف قتيل في الحرب الليبية المتطاولة لعشر سنين عجاف؛ فإن إجراء العدالة سيَقتضي إضافة عشرة آلاف آخرين للضحايا؛ إذ من العدالة مجازاة كل فعل بمثله تماماً؛ فتعود رحى الحرب للدوران مرة أخرى، ثم من هي هذه القوة التي ستهتم بفرض العدالة وتقوم بمقتضياتها العملية؟!
ويرى “التهامي”، كل طرف سياسي يعدنا اليوم بتحقيق العدالة حال فوزه، لكن طرفاً محايداً وغير محسوب على الأطراف القائمة اليوم لم يوجد بعد ولا أعتقد أنه سيُوجد يوماً.
ومن ناحية أخرى، فإن الأيدي الغاضبة والمتوترة لا تزال تقبض على الزناد، ومن الحكمة العمل على طمأنة أصحابها قبل إجراء أي مصالحة، وهذا يعني تماماً أن الفرصة الوحيدة للمصالحة؛ هي في الصفقة و”الصفقة فقط”.
وتؤمن أمينة المغيربي، وهي عضو سابق ورئيس لجنة حقوق الإنسان بالمؤتمر الوطني العام، بأن أي مشروع مصالحة ستكون نتائجه هشة ولا يؤدي إلى سلم واستقرار مجتمعي دائم إذا لم ينطلق من مشروع عدالة انتقالية يضمن تدابير قانونية وسياسية واجتماعية مناسبة لخصوصية الحالة الليبية؛ من أجل تجاوز إرث الماضي وانتهاكاته، عن طريق تحقيق العدالة، وكفالة المساءلة، وعدم الإفلات من العقاب، والقيام بالإصلاحات المؤسسية، ومعالجة جراح الذاكرة بمعرفة الحقيقة، وجبر ضرر الضحايا.
هذه التدابير الخاصة بالعدالة الانتقالية، والتي تهدف إلى تحقيق السلم المجتمعي والمصالحة الوطنية الشاملة؛ تواجه عثرات لعدم توفر الظروف المناسبة، وأهمها الاستقرار السياسي، وعدم وضع سياسات تشريعية متجردة من الانتقائية وردود الأفعال، بحسب قولها.