السلطان في متاهته الأخيرة
بقلم: طاهر محمد علي طاهر
ظللت طيلة الأيام الفائتة أراقب وأتابع الموقف السياسي في السودان والتحولات التي قد تطرأ إثر خروج الشارع بالاحتجاجات والمظاهرات التي دخلت أسبوعها الثامن.. تابعت رحلات البشير التي طاف فيها خارجيا وداخليا..فالأولى كانت بحثا عن دعم يثبّت أركان حكمه، ويدعم خزينته الخاوية التي قضى عليها الفساد، حصد فيها رسائل واضحة وأخرى غير مباشرة، من الدول التي توجه لها والرسالة التي جاءته من دولة حليفة في مكانه تحصي له الدعم الكبير الذي تبدد.. داخليا كان البشير يبحث عن جمهرة ومنبر يعالج من خلالهما الأزمة.. بدأت خطاباته بالمواجهة والتحدي ثم لانت لهجته واستوت حينما استوعب أن الخطاب الذي ألقاه أول مرة وثانيها في ضواحي عطبرة “شمال السودان” والساحة الخضراء في الخرطوم، لم يعد يجدي، بل سيصب الزيت على النار ليعود شيئا فشيئا ليستوعب أن التراكم الذي استمر 29 عاما لن يُعالجَ بسهولة خلال أيام.. والتحدي والمواجهة لن يجديا نفعا.. عاد ليجد أن السياسات التي اتبعها النظام في منهجه أخرجت جيلا بأكمله غاضبا وحانقا على ضياع عمره، وأيام شبابه، وبالتالي لم تعد لدى هذا الجيل الشاب وسيلة غير الانتفاضة، مقدما الموت على الحياة.. ومن ثم صار خطاب الحوار والوعود متجاوزا للواقع.
المواطن أيضاً كان على النهج ذاته إذ لم يعد لديه ما يخسره.. فقد دخل الجوع والمسغبة وسيطر عليه الفقر والمرض، ولم يعد يؤمن بالوعود فالوهم الذي باعه نظام الإنقاذ اتضحت حقيقته.. وإنسان السودان الذكي والفطن يعرف أن خزائن الدولة خاوية على عروشها وأن الحلول التي تتبعها الحكومة عبارة عن تسول كلما احتاج الوضع حلا تهاجر وفود الحكومة مرة إلى دول الخليج وأخرى إلى محاور الإخوان المسلمين. في حين يعلم المواطن حقيقة النهب الذي تم لكل الموارد من بترول وذهب ونحاس وزراعة وثروة حيوانية وحتى الأراضي المباعة لم ينله منها قسط ينعكس على تعليمه وعلاجه ورفاهيته..
وبعد مرور شهرين من الاحتجاجات كان يمكن أن يلحق البشير نفسه ويُجري إصلاحات تجنبه السقف العالي الذي خرجت به المطالب وهو رحيله ليس إلا… فحزبه الحاكم وكل أركان حربه تركوه ليواجه العاصفة لوحده..فمنذ متى لم يلتف النظام أو يواجه مشكلة إلا وكانت حلوله وسيناريوهاته جاهزة؟؟.. إلا هذه فقد أضحت عصية وليس هناك من حل أو خيار غير الرحيل.. وتراكمت الملفات على طاولته.. وهو أمر طبيعي لأنه استفرد بالقرار، وتهاوت كل مجالس الشورى ومجالس الحل والعقد .. وأحسب أن الرجل الآن لا يشغله ملف أقسى وأوجع من ملف السقوط والرحيل.. والخسارات المترتبة عليه وأهمها بطبيعة الحال المحاسبة.. وهو عنوان عريض يبدأ من إحالة موظفي الدولة إلى الصالح العام “التقاعد قسراً” بفعل ما سمي بالتمكين بأن يحل أهل الولاء للحزب الحاكم بديلاً عن أصحاب المؤهلات والكفاءة.. ومن ثم تأتي المحكمة الجنائية وتمر المحاسبة بالضحايا وأولياء الدم في المناطق التي تدور فيها الحروب الداخلية في إقليم دارفور ومناطق جبال النوبة والنيل الأزرق، وضحايا كجبار الذين اعترضوا على قيام أحد السدود على أراضيهم فقوبلوا بالقمع، ومجزرة بورتسودان في شرق البلاد، وإعدام 28 ضابطا في رمضان بتهمة محاولة الانقلاب على نظام البشير فلم تتح لهم محاكمات عادلة، ويعبر مسار المحاسبة بالفساد بما يتعلّق بأموال البترول والقروض والدعم الخليجي وصادر الذهب وتجنيب أموال الميزانية في الوزارات، وتأميم وبيع الشركات وأراضي السودان بدعوى الاستثمار.
أما اللقاءات الخاصة فكان لقاء العلماء والمشايخ.. ومن بعده لقاء الصحافيين السودانيين واعتقد أن البعض منهم كان صادقا فنقل الوقائع كما هي دون تزييف والبعض نعى النظام وأيامه.. وحتى اتحاد علماء المسلمين الذين يدين له نظام البشير منحه الكبسولة التي يحتاجها .. وهاهم بعض قادة الحركة الاسلامية يرفعون عقيرتهم بأنه لم يتبق شيئا ليتم تقديمه..فبات الإجماع من الكل أن ارحل.. ولم يبق أمام السلطان وهو في متاهته الأخيرة غير “ارحل”.. لأن الخناق بدأ يضيق..عالميا ومحليا ومن دول الجوار والفزعة.. ومن الإسلاميين.. ومن الشارع برمته؛ وهذا الأخير أصدق أنباء من الكتب.
-صحفي سوداني