مقالات مختارة
“الخيانة والخونة” ترحال المصطلح في “زمن التطرف”
نشر في: 02/02/2019 - 02:32
تم التحديث في: 02/02/2019 - 14:35
بلقاسم قزيط
_________
الخيانة هي لائحة اتهام أيديولوجية تؤدي إلى المشنقة كما كان الكفر أو التجديف أو الهرطقة لائحة اتهام دينية أطاحت بأعظم العقول بمقصلة الكنيسة.
إذا علت الاتهامات بالخيانة فأنت في زمن الفوضى والتخلف، وهذا لا يعني أن حالة الخيانة هي حالة طوباوية خيالية، لكنها في أغلب الأحيان إفك وكيد، ولا حقيقة لها، كتب العهد القديم تقول إن العشاء الأخير للمسيح وحواريوه الثلاتة عشر كان بسبب خيانة أحدهم للمسيح، وهو ما يتفق مع مرويات يهوذا الأسخريوطي، الحواري الثالث عشر كان ببساطة خائن.
بروتوس ربيب يوليوس قيصر وفتاه المدلل هو من يقود مؤامرة القضاء على الإمبراطور يوليوس قيصر، وهو من يوجه له الطعنة النجلاء، والتي صرخ منها القيصر ألما واستغرابا على لسان شكسبير (حتى أنت يا بروتوس)، وعبارة شكسبير الشهيرة في مسرحيته يوليوس قيصر جعلت من أسم بروتوس رديفا للخيانة وعدم الوفاء.
عصور الظلام في أوربا كانت موحشة بالعنف والجهل والمؤسف حقا أن العنف مورس بإسم الدين، فرجال الدين في العصور الوسطى مارسوا وحشية منقطعة النظير ليحافظوا على نفودهم ليسود ظلام الجهل والتخلف، ومحاولة يائسة لمنع ظهور فجر الأنوار الذي لاحت تباشيره في أوربا تلك العصور، لذلك فإن الخيانة هي التهمة الجاهزة لمن يخرج عن ترهات الكنيسة، ولأن الكنيسة هي التي تحكم فإن تهمة الهرطقة وهي في تعريفها البسيط الخروج عن إسفاف الكرادلة والأساقفة والباباوات في الكنيسة ، هذه التهمة كانت كافية لجر أعظم الرؤوس والعقول إلى المقصلة،
بدون الهراطقة الشجعان لازلنا نعيش عصر الظلمات ، وكل مفكر حر اليوم يعلن على الملأ أنه هرطوقي.
الكثير من وصفهم التاريخ بالخونة كانوا هم الأصلاء، لكن الحمولة السيئة لهذة التهمة جعلت الجميع يدرؤها بكل السبل ، البلاشفة كان لهم ثورة مزلزلة عام 1917 ولا خلاف بينهم على أبوة وأسبقية لينين على باقي الرفاق ، لكن صحة لينين المعتلة جعلت المنافسة تندلع بين الرفاق ورغم أن المرشح الحقيقي لخلافته هو تروتسكي ، لكن ستالين الرهيب استطاع إقصاء تروتسكي ، وخونه وأصبحت تسمية تروتسكي او تروتسكيين ترادف خائن في عهد ستالين ، والمفكر الكبير تروتسكي طالته يد الغدر في البرازيل ، وهكذا كان منهج الطغاة السابقين واللاحقين في تصفية خصومهم.
الطابور الخامس وهو مصطلح ظهر أثناء الحرب الأهلية الإسبانية واول من استخدمه الجنرال اميليوا مولا الذي كان يقود جيوش الثوار القادمة من الشمال لإسقاط الحكومة الثورية ذات الميول اليسارية في مدريد ، مولا كان احد جنرالات فرانكو عندما سئل عن من سيدخل مدريد من طوابيره الأربعة قال أن هذه المهمة هي مهمة الطابور الخامس ويقصد بهم أنصار فرانكو داخل مدريد ، يحق لأي إسباني إعادة تقييم مرحلة فرانكو عندها فقط يمكن إعادة الاعتبار لبعض أصحاب المواقف ، طبعا المصطلح في طوره الإسباني يعني الثوار والوطنيين، لكن استعمالات المصلح بعد الترحال كثيرا ما كانت تعني الخونة لا الوطنيين.
بيتان القائد العام للجيوش الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، والمحارب الكبير في الحرب الأولى والحامل لأوسمتها ، أستسلم لألمانيا النازية ، لأنه شاهد الانهيار المريع لقواته البرية امام المرعب جنرال المدرعات النازي غودريان ، ففضل سلامة فرنسا على خوض حرب يائسة ستدمر في فرنسا ولن توقف الألمان ، الجنرال بيتان وحكومة فيشي أصبحت رمزا للخيانة عند الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية ، والمحكمة الفرنسية حكمت على الجنرال بيتان بالإعدام ، لكن رفيق السلاح الجنرال ديغول اخدته الرأفة برفيق السلاح وخفف العقوبة الى المؤبد ، ويرى البعض لولا خيانة او حكمة بيتان لكان مصير باريس مثل مصير درسدن.
يشتكي المثقف النجم جان بول سارتر من التصنيفات الجائرة عشية الحرب العالمية الثانية ، ومن المعروف عن سارتر يساريته ،وبالتالي نزعنة النقذية للحضارة الرأسمالية ، لكن فيلسوف الوجودية وداعية الحرية ، بالقطع لن يؤيد شيوعية محنطة وسياسات الستار الحديدي ، سارتر كان يقول تنتقد الرأسمالية يقولون عنك شيوعي ستاليني إذا انتقدت الستالينية يقولون عنك متأمرك برجوازي ، وهده التهم هي مزيج من الخيانة وعدم الولاء للقيم الفرنسية في مخيلة الفرنسيين الذين يعتزون بخصوصيتهم الحضارية.
عصر الترهيب ليس خاصية عالمثالثية فقط بل بلد الحريات التي نصبت للحرية تمثالا، قاد فيها في خمسينيات القرن الماضي عضو مجلس الشيوخ جوزف ماكارثي حملة ترهيب اتهم بها كل مخالف له بأنه شيوعي ، وأعلن أن هناك الكثير من العاملين في الحكومة الفدرالية عملاء للشيوعية ، وهي تهمة كانت تعني التشكيك في الولاء والموت المهني في عصر اشتداد الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
عمر المحيشي احد رفاق معمر القذافي وشركائة في انقلاب عام 1969 , المحيشي حاول الانقلاب على القذافي ، لأنه استأثر بالحكم، أو لأنه أخلف تعهداته بإرساء حياة ديمقراطية، فشل انقلاب المحيشي، و أصبح المحيشي رمزا للخيانة في النظام الجماهيري، وكان نتيجة لذلك تمنع عائلة المحيشي من دخول المؤسسة العسكرية لأنه مشكوكٌ في ولاءها، بل تجرأ احد شعراء ملك الملوك وشتم المدينة التي ينحدر منها المحيشي قاطبة قائلا .. مصراتة يا روس البقر الي منكم الخائن عمر … جعنكم طوب ومعمر مطر ،، وإن كان عمر المحيشي هو أول الخونة في عقيدة القذافي وأنصاره ، فهو رائد الثوار في عقيدة من ثاروا عليه.
في أفريقيا غابة من الخيانات ، لكن ربما يكون أكثرها دراميةً هي خيانة بروتوس افريقيا لتشي جيفارا الإفريقي، توماس انكارا مناضل أفريقي يساري هو ايضا وصل بانقلاب الى السلطة ، وكان رجلا زاهدا متقشفا، ومناضلا حقيقيا من خامة المناضلين الكبار ، أحرج أغلب قادة أفريقيا الفاسدين و المنبطحين للمستعمر السابق بنزاهتة و ثوريته وتقدميته ، تآمر عليه الجميع ، والطعنة القاتلة كانت من رفيق الدرب ورفيق الكفاح بروتوس بوركينا فاسو الرائد بليز كامباوري.
الخيانة هي افضل تهمة لتصفية الخصوم وافضل تهمة لتبرير الفشل فنكسة السابع والستين وقعت لان المشير عبدالحكيم عامر خان الرئيس جمال عبدالناصر ، والجيش العراقي إنهار أمام المارينز لان هناك خيانة في الحرس الجمهوري ، ولاشيء من ذلك حقيقي ، الخطأ كان خطأ ناصر وخطيئة صدام ، فالجيش المصري لم يكن جاهزا للحرب، والجيش العراقي مواجهته للجيش الأمريكي كانت انتحارا دون مبرر تهمة الخيانة في زمن الاضطرابات هي نزعة إسقاطية تطهر الذات بإلصاق العيوب والمكاره بالآخر، ولابد من البحث عن من يقوم بدور كبش الفداء عند وقوع أخطاء حتى تسلم الجماعة من الدنس. المؤسف والدارمي أن الكثير ممن صنفوا خونة في زمن من الأزمان انصفوا واعيد لهم اعتبارهم ، والكثير ممن كانوا ابطال في مخيلة شعوبهم اصبحوا الان خونة فاشلين في الذاكرة الوطنية لشعوبهم الحكم على الموقف حاسم قاطع في وقتها ، لكن مرور الزمن يجللها بكثير من النسبية .