كتَـــــاب الموقع

الخطوط الحمراء الليبية

عبدالوهاب قرينقو

قبل 2011 كان في ليبيا لمؤشر الحريات خطًا أحمر واحدًا أساسيًا اسمه معمر القذافي.. فلنترك جانبًا ومؤقتًا الجدل عن وجود خطوط أكثر مثل أولاده أو النفط أو فشل المؤسسات أو النهر الصناعي أو التوجه الأفريقي أو حتى الكتاب الأخضر، والأدلة متوفرة .. فالقصد هنا الخط الأحمر الحقيقي والأخطر على حرية المواطن وصحته وربما حتى رقبته! ..لندخل مباشرةً إذن في الحاضر وما يمنحه لمستقبلنا؛ إن كان لنا مستقبل!.

في 2011؛ تحركَ زلزال ما اعتبره بعضنا ثورة أو انتفاضة أو مجرد حراك وثمة من اعتبره مؤامرة غربية أو عالمية أو كونية.. فدعونا من الخوض فيما إذا كان هذا التغيير الكبير سُرِقَ أو رُكِب عليه! .. ولنتجه في طريقنا إلى حديث وأسئلة عن الحرية والخطوط الحمراء اليوم، بعيدًا عن معسكرين، أولهما سيدعي أن الدولة لم تقم بعد لنحكم على الحريات فيها، أو لم تتشكل أو أنها متشظية، والثاني يدعي أنه صوت الحق وذراع التصحيح.. والرد هنا جاهز؛ فبعد عشر سنوات نحن أمام واقع نسميه دولة أو شبه دولة أو دولتين في دولة، أو مجرد “غيتوهات داخل بقايا وطن.. فنحن أمام حالة وأمام شعب يأكل ويشرب، ويجوع وينسى، و”يُضرب” وينسى، ويصحو وينام، ويمرض ويتعافى، ويفكر أو لا يفكر، ويحاول أن يتكلم أو يصمت، وكل ذلك على مدار عشر سنوات، مما يفترض أنه نظام جديد للبلاد وتغيير نحو الأفضل.

دعونا هنا لا نعقد محاكم لحكام اليوم ولا لشعب اليوم بل نعين ونرصد ما نحن عليه جميعًا من حكام “رعية” مهاجرين نفضتهم البلاد أو اختاروا منفاهم، أو من نازحين داخل البلاد في مدن متفرقة سماها أحد “إعلامي فبراير” المتنفذين بـ”مدن مهزومة” وأخرى “منتصرة”، هي من يضع الدستور ويحدد جميع الخطوط والألوان.. بينما نحن جميعًا نسبح في بحر من هزيمة، نحذر من تجاوز خطوط حمراء تتولد عنها كل يوم خطوط حمراء أخرى أكثر شناعة.

اليوم؛ من الممكن أن تنتقد رئيس هذه الحكومة المشرعنة دوليًا أو تلك الموازية المشرعنة برلمانيًا.. أن تنتقد هذا المجلس أو ما يقابله هناك، هذا الوزير أو الوزير الآخر .. ولكنك إن كنت في مدينة تكتم أنفاسها المليشيات فلن تنطق ببنت شفة، ليس منتقدًا وحسب بل حتى مجرد عتاب صغير لقائد مليشيا أو فرد منها أو لوزير تتبعه أو إعلامياً تناصره المليشيا ويروج لها عبر وسيلته الإعلامية.. والأدلة كثيرة وموثقة.. وبإمكانك الاحتجاج على رعب المليشيات بكل حرية إن كنت تعيش في شرق البلاد أو خارجها.. والعكس صحيح، حيث لن تتنفس بكلمة حول ممارسات وخروقات من عسكريين نظاميين في مدن لم تصلها الحرب .. بل واستضافت الجيش ولم تؤذه مرة .. لن تتمكن من ذلك؛ إلا إذا كان جسدك موجودًا في إحدى مدن غرب البلاد الكسيرة.

اليوم؛ من الممكن أن تنتقد أي نهج ديني مخالف للسائد في ليبياك وحيوي في دولة أخرى .. وفي نفس ليبيانا ممكن جدًا أن توجه انتقادًا لـ”آية الله” الذي يسيطر في العاصمة، شريطة أن تتكلم وجسدك موجود في مدينة أو حتى قرية في نطاق سلطان البرلمان وحماية الجيش.. وبالعكس تتهجم بكل قواك على النهج الديني المتنفذ شرقًا وجنوبًا وبعض الوسط، شريطة أن تتواجد خلاياك الحيوية ووجهك الذي داخله يرقص لسانك بطلاقة، غرب خط “سرت الجفرة” الأحمر!.

اليوم؛ لك كامل الحرية أن تتكلم عن تعديل المناهج وتنتقد وزارتي التعليم في شرقستان وغربستان ليبيا وتصرخ: أين مادتي الرسم والموسيقى في مدارس الأطفال؟ وحتى الكبار؟ .. أو أن “التاريخ” الذي يُدرس نصفه مزور أو موجه أو مغيب لحقائق.. أو تصرخ على أن ثمة غلو في المعلومات الدينية التي قد تنتج متطرفين.. وأمامك أحد أمرين؛ إما أن تهددك جماعة دينية خلفها مليشيات أو جيش، وإمّا أن يجعلك الجميع من “أهل المجتمع” تصرخ وحيدًا ولن يسمعك أحدٌ، كصرخة في وادٍ مهجور أو كآذان في أذن ميت .. ما جدوى الحرية إن كانت مجرد صراخ ؟!.. المجتمع صار يصنع بدوره خطوطًا حمراء جديدة .

اليوم؛ لك كامل الحرية أن تتكلم عن أمراض المجتمع وسمات التخلف وسجن النساء في معتقلات العقل الجمعي الرهيب.. ولكن عليك أن تتحمّل “مغبة” إقصاء مجتمعي لا مثيل له.. وهنا يدخل الشعب المستبد الحاكم وفي المعسكرين شمالاً وجنوبًا ..القالب الجاهز الذي سيصبّونك فيه لتخرج وثنًا يسمونه “العلمانية” في سوء فهم وتفسير واستخدام ساذج لهذه المفردة، ولن تقوم لك قائمة في محيطك الاجتماعي وهنا يرتاح الحكام في ليبياستان، بجهاتها الأربعة، من مشقّة تقييد حريتك؛ فالشعب الجلاد قد قام بالواجب.

اليوم؛ بإمكانك ممارسة مواهبك في الفن والأدب وتقيم الأمسيات بكامل الحرية ومعارض الرسم، لكن في حدود “الأدب” – التأدب- والأخلاق النبيلة، كما يحددها المشرّع “الإسلاموي” وحتى الحكومي المستمد وجوده من “المتأسلمين” وإن كنت فنانًا حقيقيًا حرًا؛ فلك كامل الحرية ولكن خارج البلاد أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى الأخيرة ستُسحب منك مادام جسدك يسبح داخل الهلام الليبي ذي الخطوط الحمراء، التي لا حصر لها.

اليوم؛ البلاد على أبواب انتخابات ديمقراطية نزيهة أو ما يُفترض أنها كذلك.. وكل ذلك في حالة نجاح حوار تونس المرتقب بعد النجاح النظري للجنة العسكرية المشتركة لجنة الـ10 الذين كانوا “5+5”.. فللمواطن الناخب حرية ممارسة الاختيار!! .. لا يوجد أي خط أحمر .. ولكن إن كان اختيار الأغلبية عكس ما ينتظره الفسطاط المقابل؛ فسوف تشتعل الحرب الحمراء والمثل غير بعيد في 2014 .. ولن ينسى شعب “الخطوط الحمراء”، تلك العبارة البليغة التي أصدرها قبل ذلك “ثوار الصدفة”- حزب الـ”موق موق” : الديموقراطية المسلحة!.. فمن ليبيا يأتي الغريب!!.

اليوم؛ جزء كبير من شعبنا الليبي الحر ينقسم ببلاهة بين صاحب الـ”فيل” الجمهوري وراكب الـــ”حمار” الديموقراطي، في ماراثون الانتخابات الأمريكية .. نعم وللأسف هناك “ليبيون ملكيون أكثر من الملك” .. “ترامبيون” أكثر من ترامب و”بايديون” أكثر من “جو” .. والأغرب أن أنصار “بايدن”، خليط عجيب من كافة التيارات الليبية وكذلك أنصار “ترامب”، الذين يرون في “دونالد” العضد الحاضن للجيش، فيما يرى البعض أنه من أعطى الضوء الأخضر لـ”أحمق أنقرة” أن يغزو عاصمة البلاد، ويجبر قوات الجيش أن تنسحب إلى شرق “بوقرين”، فيما يتناسى “عشاق بايدن” من أحزاب “هات دليلك” و”التبرير” و”الموق موق” أن من وعود “بايدن”، وضع حد لتجاوزات نظام “أردوغان” ولجم جموحه في إعادة حلم الامبراطورية، وإنهاء عبثه في العراق وسوريا و”غورنو كاراباخ” وشرق المتوسط وليبيا وعموم شمال أفريقيا.

اليوم؛ الأغرب من هذا أن طائفة ليبية “نزقة” بالأمس القريب أشعلت حربًا، بعد خسارة انتخابات البرلمان؛ نشاهدها اليوم تسخر من الفيل الأمريكي وتصبّ عليه جام غضبها واللعنات، لمجرد أنه رفض مسبقًا نتيجة الانتخابات، في سياق حبّه للحكم والسلطة والنظرة الأحادية بأنه الأقدر على حكم أمريكا وخدمة شعبها ! .. هم أكثر تناقضًا حين يتناسون الأمس القريب، حين كانوا يصنفون كل خصم بأنه “علماني”، في مشوار استبدادهم بالحكم والتفرّد به، بينما يخوضون اليوم ويتمادون في عشق علماني أمريكي عجوز ضد علماني أمريكي آخر عجوز !! .

نعم؛ أولئك من راسمي أخطر خطوط ليبيا الحمراء يتنفسون اليوم كذبًا بعشقهم الكبير للنزاهة والديمقراطية فيما خطّهم الساطع “ديمقراطية الكلينكس”؛ “الاستخدام لمرة واحدة وبعدها يطغون في البلاد بقبضة من حديد و”شريعة” هي مجرد حصان طروادة”.. وسنرى حينها آلاف الخطوط الليبية الحمراء.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى