الخروج الأمريكى الكبير
عبدالمنعم سعيد
صدق ما وعد به الرئيس الأمريكى المنتخب، دونالد ترامب، بأنه سوف يكرر ما حدث فى المملكة المتحدة فى التجربة البريطانية الشهيرة باسم «بريكسيت Brexit» عندما صوت الشعب البريطانى على الخروج من الاتحاد الأوروبى فى ٢٣ يونيو الماضى. هذه المرة صوت الشعب الأمريكى فى الانتخابات الرئاسية يوم الثلاثاء الماضى ٨ نوفمبر على الخروج من العالم فيما يمكن تسميته «أمريكسيت أو Amerexit». ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تميل فيها الولايات المتحدة فى اتجاه العزلة الدولية، وإنما نحت هذا المنحى فى أعقاب الحرب العالمية الأولى عندما قررت عدم الانضمام إلى عصبة الأمم والانكفاء على نفسها بعيداً عن الدنيا فيما كان معروفاً بالعالم الجديد. النتيجة فى ذلك الوقت كانت التحضير، ثم الانخراط فى الحرب العالمية الثانية، وفى الوقت الراهن فإن النتيجة سوف تكون فى أغلب الأحيان أكثر خطورة مما سبق. وليس فى الأمر مبالغة، فقد جاء انتخاب «ترامب» أكثر منه مفاجأة، وإنما تعبير عن اختيار للشعب الأمريكى لمسار سياسى واستراتيجى يصعب الآن التنبؤ بنتائجه كلها، ولكن ما يهمنا فيها تلك الحزمة من السياسات التى عرضها المرشح الجمهورى أثناء الحملة الانتخابية، والتى لم تكن سياسات الحزب بقدر ما كانت سياسات ترامب التى مست أوتاراً عميقة فى الشعب الأمريكى، خاصة من كان منهم من البيض.
الخروج الأمريكى الكبير يضعنا مباشرة أمام نهاية جديدة للحرب العالمية الثانية وملحقاتها من الحرب الباردة وتفصيلاتها، والتى قامت موضوعياً على القيادة الأمريكية للعالم، سواء كان ذلك بالتوازن مع دولة أخرى مثل الاتحاد السوفيتى، أو بالتحالف مع التكتل الغربى بأجنحته فى أوروبا واليابان وأستراليا وشمال أمريكا، أو للعالم كله فى ظاهرة تكنولوجية واقتصادية أعلنت عن «نهاية التاريخ» فيما هو معروف بالعولمة. كل ذلك الآن قابل للتفكيك بعد انهيار «المؤسسة» الأمريكية التى بدأت بانهيار الحزب الجمهورى، ومن بعده الحزب الديمقراطى بهزيمة هيلارى كلينتون، وأخيراً باستيلاء المحافظين الأمريكيين على الكونجرس. نتيجة ذلك المباشرة هى أن «المؤسسة» لن تكون قادرة على تقييد الرئيس الأمريكى على الأقل فى المدى القريب، وهو الذى لديه أدوات التواصل المباشر مع الشعب الأمريكى، وكتلته «البيضاء» الرئيسية (٧٠٪ من الأمريكيين)، والهجوم على خصومه، والتشهير بهم، مستخدماً فى ذلك أسلحة الدمار الشامل المعروفة بأدوات التواصل الاجتماعى. عملياً فإن نهاية التاريخ لم تحدث فى العالم، وإنما حدثت فى الولايات المتحدة عندما بات مهدداً كل ما كان معروفاً عن المؤسسات الأمريكية، وتوازن الأثقال والسلطات بينها، تحت وطأة «الشعبوية»، وهستيريا الحس الجماعى للجماهير من الطبقة العاملة التقليدية فى ولايات الصناعات «الصدئة» مثل أوهايو وميتشجان وويسكونسن وبنسلفانيا.
ما يخص العالم كله يبدأ بما وعد به ترامب بتفكيك حلف الأطلنطى الذى تعدته الضرورة التاريخية، ومعه يصبح النظام الدولى على صورة لم تُعرف من قبل. وسواء كان ذلك للضغط فى سبيل توزيع تكلفة الأمن العالمى بطريقة مختلفة عما سبق، أو أنها البداية لتفاهم بين القادة «الأقوياء» مثل «بوتين»، فإن المنظومة كلها سوف تأخذ فى التآكل. والمرجح أن إعادة النظر فى الحلف سوف يمتد بنفس المنطق إلى العلاقات الدفاعية الخاصة مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والمملكة العربية السعودية، والتى لن يكون بعدها سبيل إلا سير هذه البلدان فى الطريق النووى. وبعد الأمن يأتى الاقتصاد الذى سوف يشمل سلسلة من التعديلات والتغييرات تبدأ بالدور الذى تلعبه منظمة التجارة العالمية التى يرى ترامب أنها خدمت خصوم الولايات المتحدة، خاصة الصين، بأكثر مما خدمتها، بل إنها فى أكثر الأحيان تسببت فى أضرار بالغة للاقتصاد الأمريكى. ومن ملحقات المنظمة فى حرية التجارة الدولية يكون الانتقال إلى تعديل أو إلغاء اتفاقية شمال أمريكا للتجارة الحرة (نافتا) التى تفك العلاقة الأمريكية الخاصة مع كندا فى الشمال والمكسيك فى الجنوب. والهدف فى النهاية سيكون هذه الأخيرة، لأنها ليست بيضاء، كما أن المهاجرين منها شرعيا أو غير شرعى إلى الولايات المتحدة يهددون التركيبة العرقية للشعب الأمريكى لونا وثقافة وعملا وإنتاجية. هنا، وعلى الحدود الأمريكية- المكسيكية سوف يتم بناء حائط على مد الشوف بين المحيطين الأطلنطى والباسفيكى يمنع ويقطع ليس فقط التواصل السكانى، بل أيضا تقام عليه سياسات حمائية جمركية تمنع انتقال السلع والبضائع، والأهم الأعمال.
قد يبدو الخروج الأمريكى على هذا النحو فيه كثير من المبالغة، ولكن الظن كان هكذا عندما بدأت مراحل الاستعداد للانتخابات التمهيدية للحزبين الجمهورى والديمقراطى، ولكن ترامب دخلها وتفوق على الجناحين الليبرالى والمحافظ وحتى المحافظين الجدد فى الحزب الجمهورى، وحاز على تسمية الحزب فى الانتخابات، وبعدها جاء الدور على الحزب الديمقراطى الذى اجتمع أقطابه (بيل كلينتون وباراك أوباما وغيرهما) فى مدينة فلاديلفيا بولاية بنسلفانيا غير عارفين أن نتيجة الانتخابات فى هذه الولاية سوف تهزم حزبهم من يمينه إلى يساره. ولكن كما نعلم جميعا فإن التاريخ لا ينتهى بهذه السهولة، ولكن المؤكد أننا أمام دورة تاريخية جديدة سوف يكون لها ثمنها، ولكن أول ضحاياها ربما يكون النظام العالمى الذى ساد منذ مطلع الألفية الجديدة، بما فيه الاتفاقية الدولية للتعامل مع ظاهرة الاحتباس الحرارى. مصير كوكب الأرض سوف يكون فى الميزان!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “المصري اليوم” المصرية