الخدمات الصحية في ليبيا… بين تشخيص الوضع الراهن والحلول
د. عبدالرحمن محمد السنوسي
في ظل الحاجة اليومية لأبسط الخدمات الصحية للمرضى يتابع المختصون والمهتمون بالشأن الصحي في البلاد وخارجها حالات التدهور الرهيب الذي وصل إليه مستوى الخدمات الصحية في ليبيا. ولعل الأزمة السياسية الناتجة عن الانقسام السياسي الفوضوي والمؤدية إلى عدم وجود استقرار أمني ولا توحيد مؤسسي جعلت المناخ مناسبا لحدوث مثل هذا التدهور السريع في كثير من الخدمات ومن بينها الخدمات الصحية.
وقد حذرت في السابق الكثير من التقارير من الوصول إلى انهيار حقيقي بالخدمات الصحية، ففي 2016 حذرت منظمة الصحة العالمية من تفاقم الوضع الصحي في ليبيا، وأوردت بناء على تقرير فريق تابع للمنظمة بأن حوالي 45% من المستشفيات العامة تعتبر غير قادرة بشكل كامل أو جزئي على تقديم الخدمات المطلوبة للمرضى بسبب النقص في الأدوية والمعدات الطبية.
وتشهد المنظومة الصحية حاليا في البلاد فشلا كبيرا، حيث إن العديد من المراكز والمستشفيات الصحية العامة التابعة لوزارة الصحة تعاني من نقص شديد في الأدوية ومستلزمات التشغيل الطبية وتوفير وصيانة الأجهزة الطبية، ويطول هذا النقص حتى في تواجد الكوادر الطبية من أطباء وفنيين وتمريض، بالرغم من وجود عدد لابأس به من هذه الكوادر مما يؤكد فشل الإدارة الصحية في توظيف واستغلال القوى العاملة الطبية الوطنية في البلاد. كل هذا الفشل انعكس سلبا بتدني مستوى ونوعية الخدمة إن لم يكن انعدامها.
وفي المقابل وبالرغم من الكثرة السريعة والمخيفة لعيادات ومصحات القطاع الخاص نجد أن خدمات علاجية كثيرة صارت متوفرة في القطاع الخاص وبكوادر وطنية محسوبة على القطاع العام. تقديم خدمات القطاع الخاص صاحبها إهمال آخر للإدارة الصحية لضمان حماية المريض وعدم السماح بالمتاجرة به عن طريق وضع الضوابط وتشديد الرقابة على عيادات القطاع الخاص. وبالعكس فإن الإدارة الصحية اتجهت إلى شراء الخدمات من القطاع الخاص قبل التفكير في التقييم والدراسة للقطاع الخاص.
وعوضا عن اهتمام السلطات الصحية بتحسين الوضع الصحي بالبلاد ووضع خطة لإنعاش المستشفيات وعلى أقل تقدير المراكز الكبيرة وإنشاء أو حتى دعم مركز داخلي إيوائي يختص بعلاج مرضى الأورام ومراكز أخرى متخصصة، قامت الوزارة بالاعتماد كبديل على إرسال الكثير من الحالات للعلاج خارج البلاد، وتعود الكثير من هذه الحالات إما بسبب عدم امكانية العلاج أو عدم إمكانية الاستمرار نتيجة لمشاكل مالية، الأمر الذي ساهم في إهدار الأموال وعدم توظيفها بشكل صحيح.
هذا التدهور طال كل أوجه الخدمات الصحية التي منها خدمات الرعاية الصحية الأولية المقدمة عن طريق المرافق والوحدات الصحية المنتشرة في ربوع البلاد والذي نراه أكثر تأثيرا في المناطق والمدن البعيدة عن العاصمة. فعوضا عن العمل على تطوير وتحسين الخدمات الصحية الأولية لتشمل خدمات خاصة بالحوامل والأطفال وكبار السن وغيرها لتوفير رعاية صحية أفضل، وبالتالي المساعدة على تخفيف الضغط على المستشفيات العامة تم إهمال هذا الجانب المهم من الخدمات الصحية من السلطات المختصة مما انعكس سلبا على توفير الخدمات الصحية الأساسية للمحتاجين إليها.
نتائج شلل الإدارة الصحية طال أيضا منظومة الحماية الصحية والوقاية وأيضا السياسة الدوائية في البلاد. فنقص الانسيابية وعدم توفير لقاحات الأمراض المعدية للأطفال وخاصة في المناطق الحدودية كالجنوبية مثلا التي تتعرض لدخول الوافدين من الدول المجاورة وبشكل يومي في غياب الرقابة الصحية يعرض البلاد لخطر صحي حقيقي يهدد منظومة الحماية الصحية التي تم العمل عليها خلال سنوات سابقة من إدارات مختلفة. فالبلاد أصبحت تحت تهديد انتشار أكثر لأمراض معدية خطيرة مثل الدرن والحصبة والالتهابات الكبدية واللشمانيا والانفلونزا وغيرها.
كما أن الخلل البين في السياسة الدوائية وتحقيق الأمن الدوائي بالبلاد أدى إلى نقص حتى في توفير الأدوية التخصصية مثل أدوية الأورام وأدوية زراعة الكلى والصرع والاأدوية النفسية وغيرها من أدوية الأمراض المزمنة. والأمن الدوائي يرتكز أيضا على الرقابة الشديدة المستمرة على شركات استيراد الأدوية الخاصة والصيدليات المنتشرة في البلاد، الأمر الذي يغيب تماما عن السياسة الصحية العامة في البلاد.
السلطات الصحية أهملت أيضا التنسيق مع الجهات المختصة لحماية المرافق التابعة لها والعاملين فيها وإطلاق حملة توعوية تدعم هذه الحملة. فقد تعرضت الكثير من المرافق كالمستشفيات لاعتداءات متكررة تشمل النهب والتدمير، كما يتم الاعتداءعلى العاملين في هذه المستشفيات وحجزهم أحيانا كرهائن من قبل مجموعات خارجة عن القانون أو أحيانا مجموعات محسوبة على السلطات نفسها.
قطاع الصحة لكبر حجمه ولأهميته ترصد له سنويا الكثير من الأموال لتغطية المصروفات وتوفير اللازم من أدوية ومعدات وغيرها، ولكن للأسف صارت هذه الأموال محط أنظار الفاسدين من المسؤولين للتلاعب بها والاستيلاء عليها بطرق مختلفة، الأمر الذي يجعل القيمة الحقيقية المصروفة على القطاع أقل بكثير من المخصص له. هذا الفساد ونتيجة لضعف الإدارة الصحية امتد حتى في تخلي الكوادر الطبية من أطباء وتمريض عن التواجد في المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى في أوقات الدوام والمداومة بشكل أكثر في عيادات ومصحات القطاع الخاص.
وفي ظل هذا الوضع الصعب لقطاع الصحة المهم ولكبر حجمه ومسؤولياته فقد كانت هناك عدة محاولات لتحسين الوضع وحلحلة المختنقات، ولعل من بينها التقسيم الإداري الصادر من المجلس الرئاسي الذي يقسم ليبيا الى ست مناطق طبية لها الذمة المالية المستقلة يتولى إدارة كل منطقة وكيل مساعد وتخضع كل المستشفيات والمرافق الصحية إلى التبعية التامة لهذه المناطق كبادرة لتقسيم المهام والمسؤوليات وتصغير دائرة العمل وخلق المنافسة، ولكن للأسف ذهب هذا القرار إلى أدراج الرياح واستبدل بلجان أزمة ساهمت أكثر في زيادة حجم الأزمة.
وبالرغم من المحاولات المستمرة من المسؤولين فإن قطاع الصحة يحتاج إلى خطوات وقرارات مهمة لتفادي زيادة الانهيار وتحسين الخدمات المقدمة للمرضى التي من بينها:
– دراسة وتقييم الوضع الراهن وأسباب الوصل إليه والعمل على تجنب كل السلبيات
– وضع استراتيجية عامة للنهوض بالقطاع الصحي وبوجه الخصوص السياسة الدوائية والرعاية الصحية الأولية.
– وضع استراتيجية خاصة بتوطين العلاج بالداخل إلا للحالات المستعصية الممكن علاجها.
– وضع خطة سريعة لإنعاش المستشفيات ودعمها لتعود قادرة على تقديم خدماتها بشكل مقبول للمرضى
– تخصيص الميزانيات الكافية لقطاع الصحة.
– العمل على محاربة الفساد المالي والإداري بالقطاع وتفعيل إدارة التفتيش بالقطاع الصحي.
– اعتماد مبدأ الشفافية في اختيار المسؤولين في القطاع سواء على مستوى الوزارة أو على مستوى إدارات المرافق الصحية المختلفة.
– وضع الضوابط ومراقبة القطاع الخاص وتصنيفه.
– تحسين ورفع مرتبات العاملين بالقطاع الصحي العام وتطوير الكوادر الطبية وتمييز العاملين بالمستشفيات بشكل خاص.
– إدراج حماية المرافق الصحية المختلفة وخاصة المستشفيات في أولويات الخطط الأمنية المقترحة.