الحلم بالسجن
عمر أبو القاسم الككلي
ثمة نوع من الأحلام يسمى “الأحلام النموذجية”. واكتسبت هذا الاسم لأن غالبية الناس، على الأقل، في جميع الثقافات يمرون في نومهم بواحد أو أكثر من أحلام هذه الطائفة. منها الحلم بالطيران والحلم بالسقوط والحلم بالمطاردة والحلم بسقوط الأسنان والحلم بالأكل والحلم بالعري والحلم بالحفاء.
ولا يعد الحلم بالسجن من الأحلام النموذجية!.
الحلم بالسجن، في ما يبدو، يمثل حلما نموذجيا لمن مروا بتجربة السجن.
في إحدى يومياته (1) غير المنشورة، كتب الشاعر الراحل محمد الفقيه صالح:
“كانت كثير من أحلامي داخل السجن تحتوي على وقائع تتطلب طبعا أن أخرج من السجن، ولكن في كل مرة كنت أستحث نفسي أو مشاركي من شخصيات الحلم [على سرعة العودة]، أو كنت أسابق الوقت، مخافة أن يظلم المساء دون أن أتمكن من العودة إلى السجن”.
ويحاول أن يفسر ذلك بالقول: “وكأنما السجن قد تمكن ليس من الوعي فحسب، بل من اللاوعي كذلك”.
وفي السجن حكى لي أكثر من صديق عن أحلام مشابهة، كما كنت أنا شخصيا أحلم بصيغة من الأحلام ذاتها: أكون قد خرجت، ضمن سياقات التباسات ما، من السجن وأظل أسعى إلى العودة المبكرة إليه قبل افتضاح أمر غيابي أو نفاد الأجل الممنوح لي. كما كنت أحلم بأنه يتم الإفراج عني ثم أعاد إلى السجن.
وفي إحدى قصصه (2) يقول جمعة بو كليب: “في السنة الثانية، وعلى كره منك، يتسرب السجن إلى حلمك!!” (3).
يعلل محمد الفقيه صالح الأمر قائلا: “أمام اشتداد القمع وانسداد الأفق، أصبح السجن بمثابة الرحم أو الملاذ الذي تستكن به الذات المحصورة المقموعة”.
لكنني أعلل الأمر بشكل مختلف، إذ يبدو لي أن عقلي الباطن يريد أن يُدخل في روعي أن السجن أصبح قدري الذي عليَّ التسليم به وأن الهروب منه يجر مآسي أكبر وأفدح.
في قصة (4) كتبتها سنة 2001، أي بعد خروجي من السجن بحوالي ثلاث عشرة سنة، ورد:
“كان كثيرا ما يرى في (أحلامه) أنه قد خرج من السجن و أنه يعاد إليه. و صار الآن كثيرا ما يرى في أحلامه أنه أعيد إلى السجن (سجن أقسى وأشد همجية من الأول) ولا يخرج منه. و دائما يتذكر قول ابن سينا عندما أدخل السجن:
دخولي باليقين، كما تراه،
و كل الشك في أمر الخروج.
لكأن عقله الباطن طوح بالرغبات المكبوتة بعيدا، قاصرا وظيفته على كونه محتشدا للمخاوف المنفلتة”.
ثمة مثل ليبي يقول: “الملدوغ يتخايل الحبل”. بمعنى أن الذي سبق وأن مر بتجربة لدغ من ثعبان تتراءى له الحبال ثعابين وأفاعيَ. وهناك شيء صنو لهذا في حالة السجناء السابقين، إذ يظل رهاب السجن ماثلا في لاوعيهم مسهما في زيادة مقدار الكدر في نومهم. في هذا الصدد يقول جمعة بو كليب في إحدى قصصه (5): “قد تحزم أمتعتك وترحل، لكن السجن يرحل معك في حقيبة سفرك، ويقيم معك في دفء سريرك ووقتما حططت رحالك”.
يترك السجن نُدبة في الروح تعود إلى الالتهاب بين الحين والآخر، مهما تقادم بها العهد.
(1) منشورة كمخطوط ضمن: أحمد الفيتوري (محرر)، محمد الفقيه صالح قصيدة طرابلس الغرب (1953-2017)، ميادين، 2017.
(2) جمعة بوكليب، حكايات من البر الإنكليزي ويليه خطوط صغيرة في دفتر الغياب، دار الفرجاني، 2016.
(3) من قصة “العد البطيء من واحد إلى عشرة (محاولة أولى لكتابة ما لم يكتب بعد)” ص 19.
(4) “سرير اللغة، أسرة الواقع” في: عمر أبو القاسم الككلي، منابت الحنظل والشيء الذي ينأى. مجلس الثقافة العام، بنغازي 2006.
(5) جمعة بوكليب، حكايات…
(6) من قصة “العد البطيء…..” ص 24.