الحربُ إعمار.. عن تمدّد “الإسمنت” في الخلاء
خاص 218
أحلام المهدي
من أول دروس الجغرافيا التي أُعطيت لنا ونحن أطفال لا نعي شيئا عن هذا العالم وخفاياه، أن لبلادنا مساحة شاسعة وكيلومترات مربّعة هائلة جدّا، يصعب تصوّرها في الواقع كما على الخريطة، وكبِرنا وكبرت معنا هذه الدروس، وعرفنا أن مساحة دول بأسرها مثل المغرب أو البحرين أو لبنان قد تساوي مساحة مدينة ليبية واحدة بضواحيها.
ليبيا الشاسعة ضاقت بملايينها الستّة، وبعد أن كان الليبيون يتّجهون إلى المدن التي تنهض بها البلاد، نجدهم يعودون أدراجهم من حيث أتوا، فالظروف الاقتصادية والأمنية للبلاد جعلت الليبي يستند على عائلته وقريته التي ولد فيها، فترك الكثيرون فكرة الإقامة في المدن البعيدة، وعادوا إلى مناطقهم وقراهم النائية، طلبا لما قد يوفّره لهم الأهل من شعور بالحماية والأمان.
وكما سوّت الحرب شوارع ومباني كثيرة بالأرض، ومسحت معالم العمران من شوارع وأزقة مدن كثيرة، فقد فتحت الحرب نفسها نوافذ وأبوابا جديدة كبدائل لكل مظاهر العزوف عن الحياة، في “غريان” هذه المدينة التي تمتد على مساحات شاسعة من الأراضي المتنوّعة بين التلال والوديان والهضاب الصغيرة، نجد أن الأحداث الطارئة التي غرق فيها الوطن منذ “2011” قد فتحت بابا خلفيا للإعمار، فلجأ الناس هناك إلى الابتعاد عن المدينة التي فقدت بعض أهم مزايا الإقامة فيها، فالوضع الأمني الهشّ في ليبيا يمدّ ظلاله إلى كل شبر فيها، والوضع الاقتصادي المتردّي أعاد الكثيرين إلى الأرض وإلى حرفتهم الأولى المرتبطة بها.
الكثير من العائلات الغريانية تنازلت عن حلم الإقامة في “تغسّات” والمناطق المحيطة بها، ومقابل ذلك توغّلت داخل الأراضي الشاسعة التي تحيط بالمدينة، كتلك القريبة من “وادي غان”، إذ كانت هذه المساحات بكرا حتى وقتٍ قريب، لكن الظروف أعادت اللون الأخضر الناصع إلى بعض أجزائها، ونثرت بين ارتفاعاتها المتفاوتة بعض المباني الصغيرة الجميلة، أو ما يُعرف بالاستراحات التي صار أصحابها يقضون فيها وقتا أطول مع مرور الوقت، وبطبيعة الحال فقد رافق ذلك اهتمامٌ كبير بالزراعة والرّعي، ليشتري الليبي هناك راحته النفسية والعقلية بابتعاده عن كل أنواع الصراعات التي قد تطاله، ولينأى بنفسه عن صعوبة الوضع الاقتصادي للبلاد، فيوفّر لأسرته بعضا من أهم احتياجاتها من الزراعة التي طوّرها بعضهم إلى تجارة بسيطة، جلبت اكتفاءً من نوع خاص، وسعادةً قد لا تشتريها النقود.