“الحاخام” و”الكلب” و”المصرف المركزي”
سالم العوكلي
في الفترة التي كانت تتأخر فيها المرتبات لعدة شهورــ حينما كان بيت المال الليبي المسمى “المصرف المركزي” أداة في يد النظام لإدارة لعبة الخنق والتنفيس ــ كان مواطن أمام موظف المصرف يتوسله لكي يسحب خمسين ديناراً (على الأحمر) حين صافحه أحد الأصدقاء وسأله عن حاله، فقال له (سكوت) جمع ساكت. والمتعارف عليه في مثل هذا السياق القول (ترتع وسكوت) لكن المواطن الذي كان يتسول من موظف المصرف قوت يومه لم يعد لديه ما يرتع، فحذف هذا الجزء واكتفى بقوله :سْكوت. مع ملاحظة أن الفعل (يرتع) فعل مضارع لا يستخدم إلا للدواب.
ثمة حكاية أخرى، يهودية قديمة، تكمن عبرتها العبرية في حكمة “زد من درجة الخنق فسيكون قليل من النَفَس راحة”.
تقول الحكاية أن يهوديا فقيرا كان يسكن في غرفة واحدة مع زوجته وأولاده السبعة وأمه وأم زوجته، وبعد أن سُدت أمامه جميع الطرق ذهب إلى أحد الحاخامات يشكوه ضيق الدار وضيق الحال، وقال له : حياتي لم تعد تطاق أسكن أنا وزوجتي وأبنائي السبعة وحماتي وأمي في غرفة واحدة . فقال له اليهودي هل عندك كلب؟! قال الفقير لا . قال له اشترِ كلبا وضعه معكم في الغرفة. ولأن كلام الحاخام لا يأتيه الباطل، ولا يقال عبثا، نفذ الفقير الفكرة، لكن حياته ازدادت جحيما . فذهب مرة أخرى إلى الحاخام وقال له: أسكن أنا وزوجتي وأبنائي السبعة وحماتي وأمي ومعنا كلب، في غرفة واحدة ضيقة . فقال له الحاخام . اخرج الكلب من الغرفة . وحين أخرجه أحس الفقير بقليل من الراحة إلى حين آخر .
ذكرتني هذه الحكاية بالاقتراح الذي قدمه المصرف المركزي بطرابلس بإعادة النظر في سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية، بحيث يتراوح السعر الجديد للعملة الأمريكية بين 3 دينارات و5.57 دينار، بعد أن وصل فارق السعر في السوق السوداء إلى 8 دينارات تقريبا. والعودة إلى هذا السعر الجديد ـ الذي كنا نعتبره من سنتين فقط كارثة على المواطن ـ سيتيح بعضا من نفس الصعداء للمواطن المخنوق بضراوة، مثل إخراج الكلب من تلك الغرفة الضيقة .
فعل النظام السابق هذه السياسة الحاخامية الخبيثة، في عقد التسعينيات من القرن الماضي، حين رفع سعر الدولار في السوق السوداء التي يتحكم فيها المصرف المركزي، من سعر 30 قرشا للدولار الواحد إلى ثلاثة دينارات ونصف ، ما سبب ضيقا كبيرا للمواطن الليبي شبيه بما يمر به الآن، وبعد سنوات من الخنق الممنهج اقترح المصرف المركزي السعر الجديد ، دينار وربع مقابل الدولار، وتنفس الليبيون بعض الصعداء رغم حنينهم إلى السعر السابق الذي كان يهبهم نوعا من الكرامة حيثما ذهبوا في بلاد الله .
في الحالتين نكتشف أن المصرف المركزي هو الذي يدير اللعبة، وأنه في حالة النظام السابق كانت ملايين الدولارات متسلسلة الأرقام تنزل إلى السوق السوداء بخطة، وعن طريق بعض رجال الأمن أو أفراد قوى الثورة الموثوق في حسن تدبيرهم لهذه السوق الموازية، والذين خرجوا من هذه المهمة مليونيرات.
في مجتمع غير منتج ومعتمد على مصدر وحيد للعملة الصعبة، ما الذي يجعل صعود سعر الدولار يتوقف عند حد معين ولوقت معين ؟ لولا إدارة المصرف المركزي لهذه السوق والتحكم في سعره كما يحلو للمتحكمين فيها.
لا شيء سوى خضوعه لسلطات تتلاعب بقوت الليبيين وبكرامتهم الشرائية، والعمل بحكمة الحاخام . اخنق ثم نفس لتسيطر على الوضع. والنتيجة خروج طبقة من بعض الأغنياء الفاحشين من هذه اللعبة، وطبقة واسعة من الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم.
لابد من هذه السياسة الخبيثة حتى تعوض المليارات التي سرقت من أموالنا، ومن الاحتياطي الذي صُرف جزء كبير منه مقابل مرتبات ميليشيات، مهمتها الوحيدة الفتك بالليبيين وقض مضاجعهم وإجهاض مشروع قيام دولة القانون الحري بها كشف كل هذه الألاعيب ومعاقبة المجرمين.
لقد احتُلت الكويت، وأُلغيت كدولة، وحُرقت أبار نفطها بالكامل، وحين حُررت وعادت الدولة، عادت قوة عملتها خلال عام واحد مثلما كانت، ومازالت بنفس القوة والسعر نفسه حتى الآن .
دولة أخرى لا تملك إمكانيات ليبيا، مثل المملكة الأردنية، مازالت تحافظ على سعر عملتها وكرامة مواطنيها رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها.
إذاً، ماذا يحصل في ليبيا المتمتعة بثروات هائلة وقلة من السكان؟ لماذا تلوى يد شعبها كل مرة وتضرب سيادتها الوطنية في أهم ما يضمن كرامة المواطن وهو سعر عملته ؟
عبر فبراير حلم الليبيون بالحرية، بالدولة المدنية، بالانتخابات الحرة النزيهة، وبكثير من القيم الإنسانية المجردة ، الصعبة وغير المستحيلة. لكنهم حلموا من جانب آخر بحياة كريمة، وبخروج مليون فقير أعلن عنهم النظام نفسه من دائرة الفقر ، وبزيادة دخل يعتبر من أقل الدخول في العالم نسبة لإمكانات الدولة، وأكثر ما حلموا به أن يعود سعر عملتهم الذي تآمر عليه الحاخام المركزي السابق إلى سابق عهده، 30 قرشا. باعتبار كل المؤشرات تؤيد ذلك وباعتبار ليبيا تملك من المقومات أضعاف دول أخرى لم تتأثر عملتها رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها .
لأن الحديث عن كرامة أي شعب هو حديث عن عملة هذا الشعب، وكرامة هذه العملة أمام عملات العالم. فالدينار الليبي تهلهل وتبهدل وتآكل مثل حامله بالضبط من كثرة التلاعب به، تهلهل شكلا ومضمونا حيث أصبح يعادل عشرة سنتات بعد أن كان سعره الطبيعي يعادل ثلاثة دولارات وكسر من السنتات .
في النهاية لم يبق للمواطن المسكين سوى بقية كسور يصعب جبرها ، كسر عشري يعادل سنتات لعملته المقوضة، وكسر للظهر يجعله متسولا على أبواب المصارف وأمام آلات المحلات التي تقبل منه الصكوك مع 50% فائدة ، وكسر للخاطر أمام عائلته وضيوفه ، وكسر حتى لإيقاع المثل الرائج “ترتع واسكوت”.