الجزيرة الوثائقية تحرك رمال الكذب في درنة
سالم العوكلي
لأنني ما عدت أتابع من شبكة الجزيرة سوى قناتها الوثائقية، شاهدت بدهشة لا توصف البرنامج الوثائقي، من جزئين، “الرمال المتحركة .. درنة” وترجع دهشتي التي دفعتني مرارتها لنوبة من الضحك كون هذا الشريط الوثائقي يحمل من الكذب ما نسبته أكثر من 90%. كذب فاضح لا يتمتع بأي قدر من فن الكذب الذي من المفترض أن تجيده القنوات الإخبارية وليس الوثائقية.
أنا من درنة وأعرف تفاصيل تفاصيلها، أعرف تاريخها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتراثها الروحي، ولأني عملت في حقل الكتابة والصحافة لمدة 35 سنة كنت طوالها أحافظ على أكبر قدر من الموضوعية ودقة المعلومة ومحاولة صياغة الرأي بأكثر قدر من الوجاهة، استطيع الحديث عنها بموضوعية طيلة العقود التي عاشتها إبان النظام السابق، وبموضوعية أكثر لما حدث بعد انتفاضة 17 فبراير ، حين سرق منذ الأيام الأولى تياراتها المتطرفة هذا الحراك من شبابها المنفتح من رواد مواقع التواصل ومن طبقتها المتوسطة، وجعلت من ثورة سلمية سياسية لها مطالب حقوقية مشروعا لفتح إسلامي عسكري جديد كفر الماضي والحاضر، وكفر حتى الأهداف التي نادى بها بيان فبراير.
يقدم هذا الشريط مدينة لا أعرفها أبدا، ولولا بعض المشاهد من شوارعها لاعتقدت أنهم يتحدثون عن أول قرية استولى عليها ثوار كوبا في بداية ثورتهم .
طيلة الشريط كان يسمي المعلق هذه التيارات التي اغتالت صفوة درنة من القضاة والمحامين والضباط والجنود والإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني بالثوار، في توصيف مؤلم لأهالي هؤلاء الضحايا ، أبناؤهم وزوجاتهم وأمهاتهم وأسرهم وأصدقائهم ، وفي إهانة لطبيعة العمل الوثائقي الذي طالما شغفت به والذي جعلني احتفظ بشعار الجزيرة على شاشتي عبر قناتها الوثائقية فقط .
كان الشريط المضحك المبكي يؤكد على أن أبناء القبائل المحيطة بدرنة ومنتسبو الجيش تآمروا مع داعش على سكان درنة وأطفالها ونسائها وشيوخها، مع أنه لولا الجيش والقبائل المتحالفة لاستولى التنظيم على مدن برقة مدينة مدينة كما فعل في العراق. وطيلة العرض كان الشريط يظهر وجوها أعرفها جيدا كانت تهاجم مراكز الاقتراع في درنة بالقنابل اليدوية وهي تكبر وتلعن طواغيت الديمقراطية، أظهرها تحت مسمى ثوار درنة.
كان يظهر على الشاشة من جعلهم المخرج يخلعون اللباس الأفغاني ويلبسون الملابس العسكرية أمام الكاميرا ويصبغ عليهم الرتب العسكرية الكبيرة، وكأن تنظيم القاعدة تحول إلى بنتاجون إسلامي حقيقي . مثلما أصبغت على العائدين من جبال تورابورا ألقابا وكأنهم متخرجون من جامعة هارفارد ليتقلدوا مناصب عليا في وزارة الدفاع الليبية إبان فترة المؤتمر الوطني وهم مازالوا يتلقون أوامرهم من الظواهري، ومازال غبار كابول عالقاً بجلودهم.
وكان يؤكد على أن داعش خرجت من درنة تحت حماية الجيش من محور الحيلة جنوب شرق درنة مستعينا بصور لأرتال تخرج من مدخل درنة الغربي المار من أمام بيتي ، وهي صور التقطت عندما كان تنظيم الدولة يسيطر على المنطقة من الفتائح شرق درنة إلى رأس الهلال غرب درنة، وكانت الصورة لزفة قاموا بها بعد تفجيري مقهى ومطعم القبة التي راح ضحيتهما 45 مدنيا، بعضهم أقاربي أو أصدقائي.
داعش التي تربت في حضن ما يسمى الآن بالثوار والذين سلموا لهم درنة على طبق من ذهب لأنهم كانوا يطبقون البرنامج نفسه الذي يعيد درنة 2000 سنة إلى الخلف، ولم يحدث الخلاف بينهم إلا بعد مقتل أحد قادة الجماعة المقاتلة العائد من مانشستر والذي أودع في حسابه، قبل مقتله بثلاثة أيام، 30 مليون دينار قادمة من سلطات طرابلس، وكأي صراع في ليبيا كان الصراع في درنة بين داعش وأخواتها على المال والنفوذ فقط.
وحين خرجت داعش التي لا يتجاوز عدد أفرادها الحقيقيين الخمسين انضم من بايعهم إلى مجلس شورى مجاهدي درنة من جديد ، وهم من يسميهم شريط الجزيرة الوثائقي بالثوار . وربما فعلا هم ثوار في عقيدة إقطاعية صغيرة تعتبر الثورة هي تمرد الابن على أبيه وتعتبر الثورة الحقيقة هي تكفير الدولة المدنية المستلهمة من أدبيات الغرب.
رغم قراءتي لكتب كثيرة عن تلاعب التلفزيون بالعقول وفبركة المعلومات والأخبار، كتب لأمبرتو إيكو ، وبيار بورديو ، وفوكو ، ورولان بارت ، فككت منظومات الإعلام الكبرى وفضحت أساليب تلاعبها بالرأي العام وبالترويج لسياسات مراكز القوى، لم اتوقع أن تتلاعب قناة تحمل صفة “الوثائقية” بالحقائق لهذه الدرجة وأن تفبرك وتزور الوثائق بهذا الشكل المسرف في غيه من أجل أجندة سياسية ومن أجل إضفاء شرعية على جماعات يقاتلها العالم في العلن وتدعمها أجهزة الاستخبارات الكبرى في الخفاء.
كل ما أتمناه من القائمين على هذه القناة أن يقرأوا المفكرين الذين أشرت إليهم ، وأن يقرأوا، خصوصا، كتاب “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” لبيار بورديو، ليتعلموا طرق التلاعب الذكية التي على الأقل تحترم العقل الذي تتلاعب به، بدل هذه الفبركات الغبية التي لا تهين شعبا برمته يقاتل الإرهاب، ولكن تهين عقل المشاهد ومعرفته وذوقه .وأتمنى أن يبتعدوا بالقناة المهمة التي أحبها (الجزيرة الوثائقية) عن مثل هذه الشعوذة. هذه القناة التي أتابعها بشغف ويتابعها الكثيرون تتعرض لتلويث سياسي استخباراتي قد يشككنا في مصداقيتها ويحرمنا من متابعة كنوزها الوثائقية ، الشيقة والمفيدة. .