الجدل البيزنطي في ديارنا
أنيس فوزي
“الملائكة ذكور أم إناث؟ هل حجم إبليس كبير حيث لا يسعه مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة؟” وغيرها من مثيلات هذه الأسئلة التي كانت تشغل الكنائس والأوساط الفلسفية في القرن السابع ميلادي، مما دفع الإمبراطور “قسطنطين الثاني” لإصدار مرسوم يمنع فيه الحديث عن هذه المسائل، مهددا بالسجن لكل من يستمر في خوضها وقد فعل حقًا، لكن الإمبراطور “قسطنطين الحادي عشر” في القرن الخامس عشر ميلادي كان أسوأ حظًا من سلفه، حيث برزت هذه النقاشات مجددا وبقوّة -هذه المرّة تحت قبّة مجلس الشيوخ- ومتى؟ عندما كان السلطان محمد الثاني “الفاتح” على أبواب القسطنطينية يريد احتلالها، وقد فعل وقضى عليها للأبد.
اليوم، وبينما تدور حروب في منطقة الشرق الأوسط، ويموت في اليمن حوالي 130 طفل يوميا بسبب الجوع أو الأمراض القاتلة أو رصاص الفرقاء، وفي سوريا حيث لا تعرف أين تقف ومع من تتعاطف وأي كلمة تقول، وفي ليبيا التي تتجلى فيها كل معاني الإذلال والألم في خصومات صبيانية بين أراذل قومها بعضهم البعض، يكره الليبي جاره وصديقه وفي نهاية كل فصل يتصالح القادة في صالونات الخليج و “يبوسوا بالخد”، ثم يعودون، يحشدون من يمارس التحريض في وقت السلاح المشاع، واستخدام الفتاوى المجانية والقاتلة مثل أي بضاعة رخيصة، مثل أي سمّْ. وفي العراق، وما أدراك ما العراق، الذي هو يحمل الألم عنّا كأنه أبونا، لا اليوم ولا أمس بل منذ الخليقة، كأننا تعوّدنا على أنينه؟ هل صرنا نعتبر حزن العراق شكله وقدره؟ أليس مثيرا للرعب أننا لا نستطيع عمل أي مقاربة “متفائلة” عن شكل مستقبلنا؟ أليس غباءً السماح لأشخاص يحملون غبار الماضي بإفساد عصرنا وحياتنا التي تضيع هباءً منثورا، بلا متعة ولا هدف ولا نتيجة؟ كيف لأحدنا تضيع حياته أمامه أن يسمح لمن يتناقشون حول “بول البعير” و”قتل المخالف” و”الشعرة الخارجة من حجاب المرأة” و”حاجب المطربة” و”لحية الملتزم” أن يحكموا أو يتحكموا؟ أن يؤسسوا جماعات مسلحة سواء بالسلاح مثل داعش أو بالشرعية مثل أولاد الصحوة، الذين خاضوا ومازالوا هذا “الجدل البيزنطي” والذي يتحوّل إلى “ساديّ ووحشيّ” حين لا يصمت أو ينهق الشيخ عن الأطفال الموتى إلا بعد أن يعرف إذا ما كانوا “سنة أو شيعة” أولاً!
قد تكون السلطة الكهنوتية جبهة خلفية للسلطة الكبرى بحيث تكون مصممة أساسا للحديث عن المسائل الصغيرة في الوقائع الكبيرة، لكن في الحقيقة لن يختلف الأمر إذا ما كان هذا تغطية على الواقعة الكبيرة، أو مجرد جدل بيزنطي تافه لن يؤدي إلا إلى الهلاك. غير أن هذه المرة ليس “محمد الفاتح” هو الذي على أبواب “بيزنطتنا” بل عزرائيل شخصيا. وأننا لن نفقد إمبراطورية أو سلالة بل سنفقد ما لا نعرف حتى الآن: هل كانت حياةً أم عقابًا؟