التفكير في الدولة بعد «كورونا»
رضوان السيد
عَرَّف ابن عقيل الحنبلي (520هـ – 1126م) السياسة بأنها «ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد».
وما كان الخلاف في القرنين الخامس والسادس للهجرة على ماذا تعني السياسة، بل كان الخلاف على أمرين آخرين: أي الجهات هي الأَوْلى في القيام بذلك أم يكون التصرف سياسياً، حسب الاختصاص؟ وإذا كانت السياسة تقوم على إدراك «المصلحة»، فما حدود مراعاة المصالح في مقابل الشرع أو المبادئ والآراء المثالية لأهل المدينة الفاضلة، حسب الفلاسفة؟ وسُرعان ما جرى تجاوُزُ الإشكالية الأُولى بين السلطات السياسية والقضاء، بأنّ للسلطان، وهو صاحب اليد العليا في الاجتماع السياسي، التدخل حتى فيما هو في الأصل من صلاحيات القضاء إذا كان في ذلك «مصلحة راجحة»؛ إنما مَنْ الذي أو ما الجهة أو الجهات التي تُحدّد المصلحة الراجحة؟ وظلّت الصعوبة في القضية الأُخرى والتي لا تنحصر بتحديد المصلحة؛ بل تتجاوزُ ذلك إلى التقابُل بين القيمة والحقّ: الشريعة أو المثاليات الفلسفية (= مهمة الدولة: تحقيق السعادة التي قد لا تحققها سياسات اعتبار المصالح!)، في مقابل السياسات الاصطلاحية، كما يقول الطرطوشي. ولذلك وخلال نحو القرنين، وتحت وطأة الظروف القاسية (الغزوات المغولية والصليبية، والأوبئة والطواعين)، انصرف الفقهاء وبعض المفكرين الأخلاقيين (الذين يمزجون الأفلاطونيات بالدين) إلى تدعيم اعتبار المصلحة، ولجهتين: أنّ المصلحة المعتبرة هي طريقٌ من طرق إحقاق العدالة، وحيثما ظهر العدل وأسفر عن وجهه فهو شرعٌ من الشرع – والجهة الثانية أنّ القائمين على الشأن العام هم الأكثر تأهُّلاً للسير في المصالح باعتبار ذلك واجباً قبل أن يكونَ حقاً؛ بمعنى أنهم المسؤولون شرعاً وسياسة عن «حفظ الجماعة».
وبذلك فإنّ هذه النقاشات وسط تلك الظروف سرّعت من استتباب نظرية «مقاصد الشريعة» والتي تعني: حفظ المصالح الضرورية الخمس لبني البشر: حق النفس (الحياة)، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسل، وحق المِلْك أو المال. وبالطبع ما كان لجهة أن تقوم بذلك كله إلاّ السلطات السياسية في المجتمعات. وقد أسهم هذا الإجماع في تقوية الدولة وسلطاتها في الظروف الاستثنائية وفي كل الظروف، سواء في مواجهة الغزو الأجنبي، أو في مواجهة الجوائح الوبائية، أو الطبيعية أو الغذائية. وهناك رسالة طريفة كتبها الطبيب والفيلسوف عبد اللطيف البغدادي عن «الاعتبار بالحوادث الكائنة بمصر» نتيجة الوباء، والتي يدعو فيها السلطات والأطباء وأهل المقدرة للمبادرة والتعاون لكي لا «يتناصر» الوباء والمجاعة مع الفوضى واستيلاء الفساد!
منذ القرن السابع عشر – وهو قرن الصعود الرأسمالي بعد تحطُّم الإقطاع والهيمنة الدينية – شاع الاختلاف حول دور السلطات في الانضباط وإحقاق التوازن والعدالة بالحدّ الأدنى. والتوجه الماركسي معروفٌ في مواجهة فلسفة: «دعه يعمل، دعه يمر»، والذي أدّى إلى قيام نظامين عالميين في القرن العشرين: نظام الرأسمالية المنطلقة وحرياتها الليبرالية، ونظام الاقتصاد الموجَّه لصالح الجمهور والذي يقيّد الحريات الفردية والعامة. وقد أجمع الفريقان على آلياتٍ مشتركة لحفظ الأمن والتوازن النسي في العالم في ميثاق الأُمم المتحدة (1945)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). إنما من تحت ووراء هذا التوافق، استمرت الحرب أو الحروب الباردة التي أفْضت إلى هدم النظام السياسي الشمولي الذي يقود الاقتصاد، وإطلاق قوى السوق كما كانت لدى آدم سميث وخلفائه منذ القرن السابع عشر. لقد كان منطق رأسماليات حرية السوق: الحريات السياسية والحكومة الصغيرة ذات السلطات المحدودة، والتي تهتم بالسياسات الخارجية، أما بالداخل فلا تهتم إلاّ بحكم القانون الحافظ للحقوق الفردية. وقد رأى المفكر والقانوني الفرنسي دي توكفيل، في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، أنّ النظام الفيدرالي الأميركي هو الأفضل للجهتين: الحريات الفردية والأُخرى العامة.
بيد أنّ النقاشات بشأن أفضل الأنظمة أو الحكومات لصَون المصالح الفردية والعامة معاً لم تتوقف. فالأنظمة الحرة غير الشمولية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والتي عرفت رفاهة ووفرة في الإنتاج والاستهلاك بعد الحرب العالمية الثانية، سارت في سياساتٍ إمبريالية تجاه الخارج، واستغلالات بالدواخل. وقد تسببت تلك السياسات (وبخاصة بعد عام 1979 كما يذهب لذلك المفكر الاقتصادي بيكيتي) في ظهور فروقات هائلة في الثروة بين الفئات، وفي زيادة الحاجة والفقر في البلدان الليبرالية.
ولذلك وبعد حرب فيتنام، والحروب بالوكالة بين الجبابرة في النظام الدولي والتي نشرت البؤس في بلدان «العالم الثالث»؛ جاء هناك من يقول: بل لا بد من تعديلاتٍ في نظام الدولة في الحكومات «الحرة» باتجاه إحقاق العدالة بالفعل، وليس الاكتفاء بالبراغماتيات والمنفعيات. والدليل على الحاجة إلى ذلك استمرار جاذبية فكرة العدالة الاجتماعية والسياسة بين فئات الشباب في الأنظمة الرأسمالية.
قال فيلسوف القانون الأميركي جون رولز في كتابه: «نظرية العدالة» (1971)، إنّ حكم القانون المستند إلى الدساتير واستقلالية القضاء لا يكفي، ولا بد من الإصغاء إلى روح الواجب (في الأخلاقيات الكانطية). وليست هناك جهة يمكنها النهوض والتدخل لجعل توزيع الثروة أكثر عدلاً إلاّ الأنظمة السياسية. ومنذ عام 1972 وإلى اليوم، لا تزال عشرات بل مئات الدراسات والكتب تصدر في الملاحظات أو الإضافات على عدالة رولز فكرةً وحدوداً وآفاقاً.
إنّ الاختلالات التي استمرت وتزايدت بعد سقوط الأنظمة الشمولية خارج الصين دلّت على أنّ العدالة الاقتصادية شديدة الأهمية، وربما عادلت في أهميتها العدالة السياسية. لكنّ المجتمعات الغربية ما انتظرت الحكومات في إحداث التحول باتجاه التوازن، وظهرت فيها تيارات يمينية متطرفة تريد الاستبدال بتلك الحكومات (الليبرالية) بحجة إحلال حكومات ترعى مصالح تلك المجتمعات بخاصة، وفي مواجهة العالم كلّه إذا لزم الأمر!
واليوم، وبعد حدوث جائحة «كورونا»، وثبوت أنه حتى الرعاية الصحية ليست مؤمَّنة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وأميركا؛ يتجاوز النقاش الحكومة الصغيرة الحجم أو الكبيرة الحجم، إلى مهمات الدول الوطنية ودورها فيما سمّاه الفقهاء المسلمون قديماً: حفظ النفس البشرية. بل ويثبت أيضاً والآن أنه قد يكون ضرورياً في هذه «القرية العالمية» وجود حكومة عالمية تحفظ النوع البشري والإنساني، في القضايا الرئيسية على الأقل، وسط المشكلات المتراكمة التي ما استطاع النظام الدولي القائم على الدول الوطنية ذات السيادة في مجالها الخاص، معالجتها؛ بل إنه كان علّة في تفاقُم معظمها، «والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».