التعايش مع رئيس يجافي العرب
غسان الإمام
منذ أن وعيت العيش على كوكبنا الأرضي، تابعت باهتمام ما يجري على الكوكب الفضائي المجاور. الكوكب الأميركي. وكان اهتمامي مركزًا على سذاجة الحراك السياسي الأميركي الذي لم يتجاوز قط محدودية فكر حمار ديمقراطي. وضحالة فيل جمهوري.
لكن دهشتي تركزت على الثقافة الشعبية الأميركية، كما صاغها وصورها اليهود المهاجرون من «الغيتو» المعزول في القارة الأوروبية القديمة. هذه الثقافة فرضت أميركا على الأجيال الشبابية العالمية، كالقوة الأكبر والأجمل في الفضاء الكوني الذي نسبح فيه مع أميركا، متأثرين بسيجارة همفري بوغارت. وشارب كلارك غيبل. ومسدس جون وين. و«كاسكيت» مارلون براندو. ورومانسيات فرانك سيناترا.
أيضًا، تميز الكوكب الأميركي في غزوه الشعبوي للكوكب الأرضي بإعلام جديد، يعتمد تفكيك وتفتيت التحليل السياسي. وجاذبية التحقيق (الريبورتاج) المحاكي للقصة المسلية. ودعم التحليل السياسي بالرقم والتاريخ، بديلاً للتحليل الذهني الجاف والمعقد، منهيًا بذلك فن التحليل الأرستقراطي المعقد الذي اعتمدته الصحافة البريطانية في العصر الاستعماري.
فرضت الثقافة الشعبية الأميركية هيمنتها على العالم بألوانها الصارخة. وقوتها العسكرية. ودبلوماسيتها السرية. وعولمتها للمال. والتجارة. والسياحة. وتبنيها للقيم العائلية لدى اليمين البروتستانتي الذي لم يسمح لليسار الآيديولوجي الأوروبي بالتسلل إلى الكوكب الأميركي، ليحفظ التوازن السياسي بين يمين حاكم. ويسار مفترض ناقد ومعارض.
انهارت كآبة التطبيق الشيوعي للماركسية أمام شعبوية الثقافة الأميركية، ليس نتيجة لانتفاء الحاجة إلى السلطة السياسية، كما تصورها الفيلسوف ماركس، وإنما لتحول الثوار إلى موظفين محنطين إلى جانب المدفأة في الكرملين القلعة. ولم يبق من الماركسية سوى ابتكار ماركس للتحليل السياسي لمجتمع اليمين واليسار.
حتى هذا التحليل السياسي الرائع الذي لم تجد الثقافة والصحافة مفرًا من الالتزام به، يبدو اليوم مهددًا بقوى مخيفة مجهولة. قوى بلا آيديولوجيا سياسية وثقافية. قوى غاضبة عاطلة عن العمل. قوى مقيمة في مناطق نائية. ومعزولة عن المؤسسة. والسلطة. وتتجاهلها استفتاءات الرأي التي تزعم أنها تكشف عن الاتجاهات السياسية والاجتماعية.
هذه القوى الشعبوية المخيفة تكوّنت. وتجمعت، في أعقاب الأزمات الاقتصادية والمالية التي اجتاحت أوروبا القرن الحادي والعشرين، وهي التي ألحقت الهزيمة بحكومة ديفيد كاميرون المترددة المراهنة على بقاء بريطانيا عضوًا استثنائيًا بالدولة الاتحادية الأوروبية. ثم هي القوى التي ألحقت الهزيمة الانتخابية بهيلاري كلينتون الابنة الوفية للطبقة السياسية الليبرالية الحاكمة في أميركا.
هل كان دونالد ترامب صانع كل هذه الانتصارات الشعبوية؟ في متابعتي لما يجري على السطح الساخن للكوكب الأميركي، ربما كنت الصحافي والكاتب الوحيد الذي لم يهاجم ترامب.
بعد خطأ استفتاءات الرأي البريطانية التي لم تتوقع هزيمة كاميرون، راودني الشك في استفتاءات الرأي الأميركية التي توقعت نصرًا مؤكدًا لهيلاري على ترامب، مع الكتّاب الليبراليين الذين بالغوا في الأسابيع الأخيرة، في شتائمهم. واتهاماتهم لترامب الذي تمكن من كسب القوى الشعبوية الغاضبة. وفرض نفسه زعيمًا لها. وناطقًا باسمها. ورافعًا سبابته في مواجهة القوى الليبرالية التي كانت واثقة بنصرها.
لم يراودني الأسى على هزيمة ديفيد كاميرون. فقد كان صانع الهزيمة التي عصفت به. كان بإمكانه تجنب إجراء الاستفتاء، لو كان من معدن مارغريت ثاتشر التي رأيتها، خلال مزاولتي القصيرة لإدارة تحرير مجلة «الحوادث» في لندن، كيف ألحقت الهزيمة بمنافسها الاشتراكي جدًا مايكل فوت. وكيف عصفت بالمؤسسة النقابية العمالية. وشلَّت بتقشفها الرأسمالي تمويل تطوير خدمات البنى الأساسية، بما فيها مترو لندن على حالته المزرية والكئيبة.
ما هي هذه الشعبوية التي اجتاحت الليبرالية السياسية الحاكمة في أوروبا وأميركا. وأسقطت الآيديولوجيات المألوفة. وعبرت عن طموح وآمال الأجيال الشابة الجديدة اللامثقفة. واللاواعية سياسيًا؟ إنها الرغبة في العودة إلى حضن الدولة القومية. و«الوطن أولاً»، كبديل لليبرالية العولمة التي ألحقت الضرر بالطبقة العمالية الوطنية. وهجَّرت بضرائبها الفادحة المشروع الصناعي الأميركي إلى العالم النامي بأجوره العمالية وضرائبه المنخفضة.
لكن استمرار موجة «الوطن أولاً» يعني تفكيك الاتحادات السياسية والتحالفات العسكرية. والعودة إلى سياسة الحماية التجارية. وإعادة العمال المهاجرين إلى أوطانهم. الخطر في هذه السياسات القديمة / الجديدة يكمن في أنها تسببت في نشوب حروب مدنية بين «القبائل» الأوروبية. وعلو شأن السياسات الاستعمارية مجددًا غير المبالية بآلام ومجاعات الشعوب النامية.
ثقافة الرئيس أوباما الليبرالية اللامبالية بالعروبة حاولت فرض شعبوية «الإخوان المسلمين» على مصر. ونصَّبت محمد مرسي المهندس في وكالة «ناسا» الفضائية الأميركية رئيسًا لمصر. شخصيًا، كنت خائفًا من عداء «الإخوان» لتراث مائتي عام من التوفيق الثقافي المصري بين فكر الأصالة وفكر المعاصرة.
لا أنتظر من الرئيس دونالد ترامب (70 سنة) خطابًا يلقيه من مئذنة الجامع الأزهر، مبشرًا من جديد بأسطورية الحلول والوعود التي تراجعت عن تنفيذها انهزامية أوباما المثقف المتردد. فقد كان همه أن يكون مجرد مسمار أسود يحمي تماسك الترس الأبيض الحاكم، من الانكسار في حروب عبثية دارت في ديار العرب والمسلمين.
استمعت إلى مقابلة إذاعية مع اللبناني وليد فارس الذي يوصف بأنه مستشار بارز لدونالد ترامب في السياسة الخارجية. وهو مقرب من حزب «القوات اللبنانية» الذي يتزعمه سمير جعجع. تكلم الرجل بلغة عربية سليمة غير مألوفة لدى ساسة العامية الدارجة في لبنان. نفى الرجل بشدة عداء ترامب للسعودية وللنظام الخليجي والمصري. كما نفى مجافاة ترامب للعرب والمسلمين. لكن ندد بالإخوان المسلمين. والإرهاب الداعشي. وقال إن خبراء أميركيين متخصصين سوف يعكفون على رسم منهاج ترامب الخارجي.
لم أصوت مع النظام العربي للمرشحة هيلاري كلينتون. فقد أَلِفتُ البون الواسع بين اللغة الانتخابية للمرشح الرئاسي الأميركي. ولغته الرئاسية بعد استقراره في البيت الأبيض.
لكن أذهلني ناخبو الكوكب الأميركي. فقد حضروا مهرجانات هيلاري الانتخابية. ثم ذهبوا إلى التصويت ضدها في صناديق الاقتراع! لم يصدق الناخبون دونالد ترامب. ثم انتخبوه رئيسًا لهم! وسبقوه إلى البيت الأبيض في مظاهرة ضد ترئيسه! كاد المرشح «الاشتراكي» العجوز بيرني ساندرز يحمل آمال الأجيال الشابة الجديدة معه إلى البيت الأبيض، لولا مبايعته المتأخرة لكلينتون، بعدما ساهم في إحراق شعبيتها. تبرع أوباما بشعبيته (غير الموجودة وفصاحته الخطابية) للدعاية لترئيس هيلاري، بعدما أقصاها عن الرئاسة ثماني سنوات.
أرثي حقًا للمسكينة هيلاري. فقد قضت ثلاثين سنة في مخيم مؤسسة الحكم البيضاء. وهي تحاول إقناع السود والملونين بأنها مرشحتهم المخلصة. فامتنعوا عن التصويت لها. خبأت هيلاري زوجها بيل كي لا تتذكر الناخبات مخالفاته الزوجية لها. وأخفت ابنتها تشيلسي التي اختارت سمسارًا يهوديًا في «وول ستريت» زوجًا لها. وعينتها لإدارة الأموال التي جباها أبواها ثمنًا لمحاضرات ألقتها الأم هيلاري على المصارف المفلسة التي أنقذها منافسها أوباما بأموال دافعي الضرائب الذين عجزوا عن شراء البيوت المقيمين فيها. وثمنًا لمحاضرات ألقاها بيل أمام أنظمة دفعت بسخاء ثمنها، دون أن تلتزم بما ورد فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية