“التبو” من الداخل.. دراسة عن “الأصول والجذور”
أبو كالا زين
التُبو (القُرعان)
التُبو شعب من الرُعاة البَدو الرُحّل وشِبه الرُحّل، يَستوطن، في الوقت الراهن، الجزء الأوسط من الصحراء الكبرى الأفريقية، على امتداد الجزء الجنوبي من دولة ليبيا، والجزء الشمالي والوسط الغربي من جمهورية تشاد، والجزء الشرقي من جمهورية النيجر، والطرَف الأقصى من شمال غرب جمهورية السودان.
تَسمية “تُبو”
عُرِف التُبو (تُوبو، تيبو، تَبو، تِبو، تُوبِ، …) عبر تاريخهم، بعدة أسماء أطلقتها عليهم الشعوب المجاورة لهم، لكنهم اشتهروا باسمين هما التُبو والقُرعان. تتعدد الروايات عن اُصول هاذين الاسمين. ذهب عالم المصريات النمساوي لِيو رَينيش إلى أن كلمة “تُبو” هو تحوير لكلمة “تِحنو”[1]، وهو اسم كان يُطلقه المصريون القدماء على مجموعةٍ من القبائل استوطنت الأراضي الواقعة إلى الغرب من وادي النيل، فيما كانت تُُعرف بالصحراء الليبية[2]. ويرى بعض الباحثين أن كلمة “تُبو” كانُورية الأصل (لغة شعب الكانوري) وأنها مركّبة من مقطعين: “تُو” وهو الاسم الذي يُشير به التُبو إلى جبال تبيستي، و “بُو” وهو صيغة الجمع للّاحقة المُفردة “ما” التي تدل، في الكانورية، على النسبة، عند إلحاقها باسم بلد[3]. إذَن، فهي تعني تحديداً “الجَبَليّون”. واستعملتها الشعوب المجاورة للتبو من جهة الشمال والغرب، في فَزّان وكَوار وكانُم وبُرنو. كما اعتمدت إدارة الاحتلال الفرنسي هذه التسمية كاسم لهذا الشعب بأكمله.
تَسمية “قُرعان”
أما تسمية قُرعان (قوران، كوران، جوران) فيذكر الكاتب الإنجليزي إتش. جي. فيشر أنها وردت في أوائل القرن الثامن الميلادي، ويقول : “الخوارِزمي، وهو يكتب، على الأرجح، بين عامي 836 و 847م، استعمل تسمية كُوران، وهي الَّتي تحوّلت في استعمالنا المعاصر الى قُوران، وتشير الى تُبو الجنوب او دازّا”[4]. كما أورد هذه التسمية الرحّالة الأندلسي الحسن الوَزّان، المشهور باسم ليون الأفريقي (1488-1554م) وذلك في كتابه “وصف أفريقيا” حيث يقول في معرض حديثه عن الطرق الصحراوية للقوافل: “وأسوا من هذا خط السفر المفتوح حديثاً بين فاس والقاهرة مروراً بصحارى ليبيا، غير أن المسافرين يمرون في طريقهم هذه بالقرب من بحيرة عظيمة تعيش حولها شعوب ساوو وكُوران”[5]. ويضيف في موضع آخر وهو يتحدث عن مملكة “نوبيا” في جنوب مصر وشمال السودان: “وملك النوبة في حرب دائمة، تارةً ضد القُرعان الذين هم من جنس البوهيميين الذين يعيشون عيشة ضنكاً في الصحراء ولا يفهم أحدٌ لغتهم”[6].
تَستعمل تسمية قُرعان الشعوب المجاورة لشعب التُبو من جهة الجنوب والشرق للدلالة عليه، كالتُونْجُر والعرب الشُوا والبولاله والكُوكّه وشعوب وَدّاي والعرب الخُزام والمحاميد وبَنو عمومتهم ومن يلي هؤلاء من شعوب. كما عُرف التُبو-القُرعان، عبر تاريخهم، بأسماء أخرى أشهرها اسم “بَرداوه” الذي ذكره المؤرخ المصري تقيّ الدين المَقريزي (1364-1442م) وليون الأفريقي[7]. وغيرهما. بينما يُطلق الطوارق، سكان صحراء تينيري وما حولها، اسم “إيكَرادِن” على شعب التُبو-القرعان.
الأصل
لا يزال الكثير من الغموض يكتنف الجزء الأكبر من تاريخ هذا الشعب. إلا أن المُعطيات التاريخية القديمة والقرائن العلمية الحديثة تكاد تجزم بأن التُبو من أقدم الشعوب التي استوطنت منطقة الصحراء الأفريقية. بل إن تواجدهم، في بعض مواطنهم الحالية، قد لا يقل عن 30,000 سنة[8]. ومن الأرجح أن يكون التُبو هم أحفاد رعاة الماشية، في عصور ما قبل التاريخ، الذين استوطنوا المنطقة واستطاعوا مقاومة الصحراء والتأقلم معها[9]. ويذكر المؤرخ الأمريكي جي. آر. ويليس أن أحجار الأمازونايت التي كان يتم التنقيب عنها في منطقة جبال أكاكوس الليبية، وعُرفت قديماً في مصر باسم حجارة “تَمحي” لا زالت تَستخرجها التُبو هناك، ما دفع البعض للإشارة إلى أن بعض المتحدثين بلغة التُبو ينحدرون من شعب تِمِحو القديم الذي كان يستوطن ليبيا والواحات المحاذية للنيل[10].
وقد أشار المؤرخ الأغريقي هيرودوت الذي زار شرق ليبيا حوالي العام 450 ق.م. في كتابه “التاريخ” إلى وجود شعبٍ إثيوپي (أسوَد البَشرة) في الجنوب الليبي، اعتبره إحدى القوميتين الأصيلتين في ليبيا[11]، يكاد يُجمع المؤرخون المختصون على أنه شعب التُبو[12]. وأشار المؤرخ والجغرافي اليعقوبي (المتوفى عام 897م) إلى شعب التُبو باسم “لَمْطة” ووصفه بأنه أشبه شيء بالبربر[13]. كما أشار إليه المؤرخ المقريزي باسم “برداوه” وعدَّه من شعوب البربر أيضاً[14]. وتبعه في ذلك المؤرخ ليون الأفريقي الذي اعتبر شعب بَرداوه إحدى الشعوب النوميدية الخَمس التي تقطن بلاد النخيل في الصحراء الواقعة بين نوميديا وأرض السودان[15]. وأشار إلى شعب برداوه بعض الرحّالة اللاحقين، منهم جورج إف. ليون والشيخ محمد بن عمر التونسي وهاينريش بارت. ويرى المُستكشٍف الألماني قوستاڤ ناشتيقال أن التبو ليسوا من البربر، مفصِّلاً : “وإن لم يكن للتُبو أيّة صِلةً بالبربر، فإنهم مع ذلك لا يُشبهون الزنوج، بل يشكّلون شعباً وسيطاً بين السكان الأصليين لشمال أفريقيا وزنوج السودان”[16].
المَوطن
يُقيم التُبو على مساحة تقدّر بربع مساحة الصحراء الكبرى. وقد استوطنوا، حسب وصف المؤرخين، الأراضي المُمتدة إلى الغرب من وادي النيل بمحاذاة الحدود الغربية لمملكة “نوبيا” القديمة، والَّتي كانت تُعرف بـ”قَفْر القُرعان” شرقاً[17]، إلى مشارف “فَزانيا” القديمة وبلاد الجَرامَنت غرباً[18]. ومن تُخوم واحات “أوجلة” و”زلة” القديمة وجبل السَودة شمالاً، إلى الهضاب والسهول الممتدة حول مرتفعات إينيدي وجبال تيبستي جنوبأ، قبل أن ينزح جماعاتٍ منهم، عبر بُركو وتيبستي، إلى سهول مورتشا ومنخفضات كانُم وواحات جادو وكَوار. ونزحت آخر جماعة من التُبو من جنوب غربي مصر عام 1920.
تعرّض التُبو، عبر تاريخهم، لحملات متتابعة من الغزاة كالرومان[19] والعرب[20] والأتراك، للهيمنة أو القضاء عليهم واحتلال أراضيهم ودفعِ من نجا منهم نحو الداخل الأفريقي جنوباً. شنّ الأتراك عدة حملات عسكرية ضد شعب التُبو في الجنوب الليبي، كانت من أواخرها تلك التي جرّدها الحاكم التركي في طرابلس، الباشا يوسف القره مانلي عام 1808 وألحقت هزيمة قاطعة بالتُبو، ورسّخت، بشكل نهائي، سيادة العرب على مجموع واحات الكفرة[21]. كما سعت السلطات الليبية منذ إقرار قانون الجنسية عام 1954 ثم انقلاب عام 1969 إلى تهميش شعب التُبو وطمس هويته وإنكار تاريخه والترويج لعُروبته والتقليل من كيانه. وعمدت مراراً، كان آخرها عام 2007، إلى نزع حق المواطنة عن المئات من الاُسر، وحرمانهم من حقهم في التعليم والسكن والرعاية الصحية[22].
التُبو-القُرعان شعب واحد في أصله وكيانه، رغم تعدد المُسمّيات. ويمكن تقسيمه، استناداً إلى اُسس لغوية، إلى فرعين رئيسيين هما التُودا والدازّاقَرا.
اللُّغة
تنتمي لغة التبو-القرعان إلى عائلة اللغات النيلية الصحراوية، وهي أيضاً من اللغات النَغَمية التي تتميز بنبراتها السريعة والحادة والمتشابهة. وتتفرع إلى لهجتين أساسيتين هما :
1- تيداغا، وهي اللهجة التي يتحدث بها “تودا” سكان الجنوب الليبي وجبال تيبستي وواحات شمال شرق النيجر وحوض أيِر؛
2- دازاغا، وهي لهجة “دازاغادا” سكان إينيدي وبُركو وبَطحة وكانُم ومانقا وأيِر.
ورغم تماثل اللهجتين في القواعد النحوية والصرفية، إلا أن هناك تمايزاً ملحوظاً في المفردات والمُسمّيات والنَبرات، قد يكون ناتجاً عن تطوّر اللهجتين في بيئتين منفصلتين بعض الشيء. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التقسيم اللغوي تقريبيي فقط، فكثير من دازاغدا سكان بُركو وشمال كانم هم في الأصل من التودا. وفي حين أن الكثيرين من الدازاقَرا يجيدون التحدث بتيداغا فإن الغالبية العظمى من التودا يجيدون التحدث بالدازّاقا.
ويرى بعض الباحثين الغربيين أنه ليست هناك أية تسمية، لدى التبو أنفسهم، يشيرون بها إلى كيانهم ككل، إلا أن من الشائع لدى أفراد هذا الشعب، أياً كان موقعهم، أن يعتبروا أنفسهم “دازاقرا”. وهي تسمية ذات دلالة لغوية محضة، غير مرتبطة بقبيلة أو عشيرة أو منطقة بعينها.