التأجيل خارطة الطريق الوحيدة
سالم العوكلي
تأجيل الانتخابات إلى ما بعد 14 شهرًا؛ لا يعني سوى شيء واحد بحسب خبرتنا في التأجيلات المستمرة وفي المراحل الانتقالية المتلاحقة. وهذا الشيء الواحد لن يتضح إلا عبر عملية حسابية، وباعتبار أن كل عضو في مجلس النواب ومجلس الدولة يتقاضى شهريا 16 ألف دينار ليبي في الحد الأدني؛ فإن هذا الرقم مضروبًا في 14 يساوي 224 ألف دينار، أي ما يقارب ربع مليون دينار مكسب من التأجيل لكل عضو في هذه المجالس، فضلاً عن مكافآت عمل اللجان والهبات وبدل المبيت، والعمولات والرشى لبعض الأعضاء الذين أصبحوا معروفين لليبيين، خصوصًا بعد أن أصبح الفساد شبه معلن ومدعاة للتفاخر والمفاخر.
فمن سيترك هذه “الياغمة”، ويعود مواطنًا عاديًا بعد أن تعود على حياة الترف والجواز الأحمر والسجاد الأحمر والليالي الحمراء؟!. لا عاقل سيتخلى عن كل هذا، ولولا قوة الجهاز الديمقراطي وقوة الدساتير؛ لما خرج أحد من تحت قبة المجالس المترفة في العالم كله. وللأسف، لا جهاز ديمقراطي لدينا ولا دستور نافذ، فكل هؤلاء مغتصبون للسلطة، ولا وسيلة لإخراجهم سوى الوسيلة التي أطاحت بالنظام السابق غير الشرعي.
تغيرت كل الأجسام خلال هذه الفترة الطويلة سوى هذين الجسمين الفارضين نفسيهما على الليبيين بالقوة وضمن سياسة الأمر الواقع، مجلس النواب جاء عبر الانتخابات ومقتضيات الإعلان الدستوري، وانتهت ولايته الدستورية، وانتهت حتى ولايته التي حصل عليها عبر اعتماده بالإجماع للاتفاق السياسي الذي لم يُضمن في الإعلان الدستوري، وكان اعتماد الاتفاق السياسي بالإجماع خطوة من أجل التمديد فقط، ومن الممكن إجراء عملية حسابية أخرى من سنوات التمديد لنعرف أن كل عضو قد ربح الملايين من هذا الإجراء.
ومجلس الدولة غير الشرعي من الأساس، اعتمد على الاتفاق السياسي الذي لم يضمن في الإعلان الدستوري، وعبره مدد أعضاء المؤتمر الوطني لأنفسهم سنوات أخرى، تقاضوا فيها الملايين دون وجه حق، وبعد أن سلموا مهامهم لمجلس النواب مرغمين.
هما مجلسان يتبادلان العداء المعلن، لكن ثمة مشترك واحد بينهما يتعلق بالعمليات الحسابية السابق ذكرها، وهذا هو الشأن الوحيد المتفقان فيه، وتحالفا، كل على طريقته؛ من أجل إجهاض الانتخابات التي كان موعدها ديسمبر الماضي.
العلاقة بين هذين الجسمين، مثل العلاقة بين الكونغرس الأميركي ومجلس الدوما الروسي، عداء مستفحل، ونادرًا ما يلتقيان على مصلحة، وحين يتفقان في شيء؛ فهذا يعني أن ثمة كارثة ستحل، وكل شيء خاضع لعمليات حسابية ومزيد من النقود، ودائمًا فتش عن المال لتعرف ما يحدث في ليبيا.
تغيرت كل الأجسام لكن بقى هذان الجسمان في وجه كل التغييرات والعواصف المحلية والدولية، أعضاؤهما يزدادون ثراءً شهريًا والليبيون يزدادون فقرًا يوميًا، يظهرون العداء لبعضهما أمامنا على الشاشات، وحين يلتقون في مدن العالم يأخذون بعضهم البعض بالأحضان.
من المفترض أن هذه المعادلة الوقحة وهذا اللعب بمستقبل ليبيا يفضي إلى انتفاضة تسقط هذه الأجسام، هل ثمة خوف من فراغ سياسي؟ وما معنى الخوف منه ونحن نعاني في ظل هذه الأجسام من كل أنواع الفراغات؟ فراغ أمني وفراغ قانوني وفراغ اقتصادي وفراغ اجتماعي وفراغ مؤسسي وفراغ أخلاقي، حين نخر الفساد هذه الأجسام.
من الممكن أن نعود إلى حيث أضعنا الطريق: دستور الاستقلال، أو الإعلان الدستوري قبل أن يُفخخ بالاتفاق السياسي بذرة الفتن، أو أن نعود لما تفعله الأمم في مثل هذه الحالات من الانسداد الشامل، تكليف مجلس القضاء الأعلى بالسلطة التشريعية وتشكيل حكومة كفاءات، لكن ما أعرفه أن هؤلاء الذين تذوقوا عسل السلطة لن يتركوها إلا بضغط شعبي، وبكل الوسائل السلمية.
أما مسألة السلاح المنتشر والميليشيات بكل أنواعها التي تتحكم فعلاً في البلاد والعباد؛ فهي المعضلة الكبرى أمام أي مبادرة أو خارطة طريق تسعى لإخراجنا من هذه الأزمة، فلا يمكن لميليشيات وسلاح خارج القانون أن يعيش وينمو إلا في ظل أزمة وفي ظل الفوضى وغياب الدولة الشرعية بأجسامها الشرعية التي تحتكر القوة والسلاح، هي معضلة لا يمكن حلها إلا عبر مجلس الأمن (والعين الحمراء)، خصوصًا أن ليبيا مازالت تحت الباب السابع، خصوصًا وأن كل هؤلاء (يخافوا وما يتحشموا) كما عرفنا من وقائع سابقة.
أما الحديث عن تفكيك الميليشيات أو إدماجها؛ فهو مجرد وهم وضحك على العقول، سيبقى سنين طويلة، وربما للأبد، مثل ميليشيات تتحكم في كثير من المجتمعات ما قبل الدولة عبر عقود طويلة، لا يمكن لأي جسم سياسي جديد قابع في العاصمة تحت سلطة الميليشيات أن يتخذ خطوة حيال تفكيكها أو إدماجها، والمؤسسات السيادية بما فيها مجلس النواب ومجلس الدولة تتقاسم الكعكة بشكل أو آخر مع هذه الميليشيات، وما تبقى ليبيون يُعدون بالملايين ما زالوا يحلمون بدولتهم المدنية ويسارعون بالتسجيل في قوائم الانتخابات كلما وعِدوا بها، بينما هذه الأجسام والميليشيات المتفقة معها ضمنيًا؛ أكثر ما يرعبها فكرة الانتخابات وعودة الشرعية، فمن يملك السلاح والمال هو المتحكم، وهذا ما حكم به القذافي ليبيا لعقود طويلة (السلاح والكتائب الأمنية والمال) لكن حين تحرك الناس ظهر أنه نمر من ورق، وسقط النظام وهو في ذروة قوته، وكل ثورة تستلزمها ثورة ثانية وثالثة أحيانًا، لأن الثورات ارتبطت أيضًا دائمًا بسرقتها من قبل الانتهازيين وأمراء الحرب وعُبّاد المال، وهي مثل الجرعات الكيماوية المتكررة ضد السرطان الذي يحاول أن ينتشر، ومجالسنا النيابية والاستشارية، غير الشرعية، مثل الورم الخبيث، وهم من عُباد المال والسلطة، وهم من سرقوا أحلام الناس.
لا يوجد حل إلا بأيديكم وإراداتكم يا ليبيين.. للتخلص مرة أخرى من هذا النظام البشع الذي يحكمنا، بمجالسه وحكوماته، ويصدّع رؤوسنا بالحديث عن الديمقراطية الكاذبة كما فعل النظام السابق.
إننا نرى مظاهرات في أصقاع الدنيا تخرج ضد إلزامية التطعيم الذي تسعى من خلاله أجسامهم الشرعية لحماية سلامة مجتمعاتهم، ما بالك وهذه الأجسام غير الشرعية التي تحاول أن تلزمنا بالتطعيم ضد الشعور بالكرامة.
الحكومة الحالية، واحدة هذه الأجسام حيث يهدد رئيسها بالحرب إذا ما أزيح من السلطة، وكلام رئيسها يشبه كلام رأس النظام السابق بما فيه من وعيد بحرب أهلية إذا ما فكرتم في إزاحتي عن السلطة، وهذا هو الورم الذي أتحدث عنه والذي يعود كل مرة حين تُوقف الجرعات المضادة.
ادبيبة أول رئيس حكومة يرفض تنحيته ويهدد بحرب منذ قيام الدولة الليبية قبل 70 عامًا.
******************
تعليق على تكليف مجلس النواب رئيس حكومة جديد:
رغم توجسي من تتابع المراحل الانتقالية، وإشارة إلى انتقاداتي السابقة والحادة للسيد فوزي باشاغا مثلما انتقدت شخصيات، بالاسم ومن الطبقة السياسية، من الغرب والشرق بحسب ما رأيته وقتها، إلا أن هذا التكليف قد يكون تصحيحًا للمسار بعد أن فشلت حكومة الدبيبة في إنجاز أي مهمة من المهام المكلفة بها، وعلى رأسها إجراء الانتخابات في موعدها أو موعد قريب. فهذا الرجل، باشاغا، حين خسرت قائمته في انتخابات لجنة الـ 75، اتصل بالفائز وهنأه وتمنى له التوفيق رغم معرفته بانعدام النزاهة الذي كان وراء فوز تلك القائمة، كما أثبت أن لديه القدرة على تقديم التنازلات والتوجه الجاد إلى المصالحة الوطنية وتوحيد الدولة، كما أنه يحظى بتوافق (وليس إجماعًا) من قبل أطراف نزاع مختلفة وفاعلة على الأرض من المهم أن تجمع على حكومة موحدة للمرة الأولى، وأعتقد أنه سيفي بتعهداته أمام مجلس النواب بعكس ما فعل ويفعل رئيس الحكومة الحالية الذي كذب صراحة في كل تعهداته وفشل تمامًا في مهمته.
المهمة صعبة، لكن في جميع الأحوال دون ضغط شعبي مستمر؛ سيظل الحال كما هو، العائق دائمًا هو السلاح الخارج عن القانون، والميليشيات التي لا يمكن تفكيكها إلا بتحالف بين المجتمع الدولي، مع حكومة تسعى فعلاً لهذا الهدف، ومع شرائح الشعب التي يجب أن تضغط بكل الوسائل السلمية لإيقاف عبث هذه المجموعات، وعبث كل من يعرقلون إعادة المسار السياسي والشرعية عبر الناخبين.
وعلى رئيس الحكومة الجديد، إذا كان صادقًا في تعهداته ونواياه؛ أن يدعم الحراك الشعبي السلمي المطالب باستحقاقات الدولة المدنية، وأن يوفر له الحماية، وأن يحترم كل نقدٍ يُوجه له ولحكومته.