البشر والحيوانات وشعرية قابلية العطب في الرواية الليبية*
سوزانَّا طربوش**
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
يكتب الأستاذ رشيد العناني، محرر سلسلة “الأدب العربي الحديث” التي يصدرها مركز “دراسات أدنبرا” في تقديمه لكتاب “البشر والحيوانات وشعرية قابلية العطب في الرواية الليبية”: “على حين أن الرواية الليبية قد حققت تقدما يستحق الإعجاب في عقود قليلة فقط، فإن المتابعة الدراسية لها ظلت متأخرة عنها بشكل سيء… هذا الظرف غير السار هو ما يقوم هذا الكتاب بتصحيحه”.
ويضيف: “لعل أحد أهم العناصر في مقاربة المؤلفة هو تركيزها على شعرية قابلية الكائنات للعطب، وهي مقاربة نادرا ما استخدمت في دراسة القص fiction*** العربي، إلا أنها مقاربة تمنح الرواية الليبية لها نفسها بحرية وأريحية، مثلما توضح هذه الدراسة”.
يعد كتاب الدكتورة كارس أولسوك إضافة متبصرة ومحفزة ضمن سلسلة “دراسات أدنبره في الأدب العربي الحديث” صدر عن مطبعة جامعة أدنبره. تتخذ المؤلفة مقاربة أصيلة وبكرا. فعلى سبيل المثال تموضع دراستها للرواية الليبية ضمن حقلي دراسة الحيوانات والنقد البيئي ecocriticism.
أولسوك محاضرة في الأدب العربي والثقافة في كلية “الدراسات الآسيوة والشرق الأوسطية” بجامعة كيمبردج، كما أنها زميلة في كلية نيوهام وكلية كنغ.
إنها مترجمة موهوبة في القص العربي، ففي أوائل هذه السنة [2020] نشرت “كتب بانيبال” ترجمتها رواية الحبيب السالمي الأولى (1987) عنز الجبل (التي نشر مقتطف منها في بانيبال 59: القائمة الطويلة)
قبل هذا ترجمت أولسوك رواية “تاتينكات أفريقية” 2008 للكاتب الإرتيري أبو بكر كهال. كما ترجمت، بالتعاون مع دانبي، رواية الكاتب السوداني أمير تاج السر “إيبولا” 2012، وترجمت أيضا عددا كبيرا من القصص القصيرة.
يرتكز كتابها على الأطروحة التي نالت عنها شهادة الدكتوراه من “مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية” بجامعة لندن في 2016. مؤدى الأطروحة “تَواجُه الكائنات: الحيوانات في المخيال الأدبي الليبي”، التي ركزت فيها على القص الليبي بداية من ستينيات القرن العشرين إلى 2011. والكتاب يوسع مدى الأطروحة، ماضيا بالسرد قدما حتى الوقت الحاضر.
تتعقب أولسوك، في الرواية الليبية، منظومة العوامل التي ساعدت على تشكل الأدب الليبي “فمنذ ازدهارها الأول في ثمانينيات القرن الماضي لم تصف الرواية الليبية، إلا نادرا، الحياة المعاصرة حسب المعطيات الواقعية المباشرة” وإنما اضطرت إلى الاستدارة إلى الخلف، حقبة الاستعمار الإيطالي (1911- 43)، أو فترة الإدارة العسكرية البريطانية (1943- 51) أو عهد المملكة السنوسية (1951- 1969).
“فمنذ المقاومة الشعبية ضد الإيطاليين وحتى الازدهار النفطي في الستينيات، ناضل هذا القص من أجل استعادة الذاكرة التي جرى تجاهلها وهضمِ التحولات الاجتماعية العشوائيةdisoriented . وهذا يشير أيضا إلى استحالة تناول أي شيء بعد 1969 تناولا مباشرا – السنة التي وصل فيها معمر القذافي إلى السلطة. وهي تسمي هذا “الهشاشة السردية” أو “صعوبة القصة” في نشأة القص الليبي.
في تراث أدبي تمثل فيه كل قصة إشكالية، يصبح السرد إيمائيا بالضرورة. “القصص تخفي قصصا أخرى، تجتهد في التعبير عن الخبرة الإنسانية في بلاد كانت قد تحولت، خلال بضعة عقود، من البداوة**** إلى الحضر، ومن الاستعمار إلى الدكتاتورية، في أمة ريعية وفي نفس الوقت “متأبية rogue” بدون دولة وشمولية، ومنذ 2014علقت في ويلات الحر الأهلية”.
تتجذر شعرية الرواية الليبية في الفلكلور والتراث الصوفي والقرآن والبيئة المُهدِّدة بصحرائها المترامية والعواصف الرملية والساحل الرث. تصف أولسوك الشعب الليبي على أنه “غُرِّب othered” في أرضه، سواء باعتباره مواطنا من الدرجة الثانية تحت الاستعمار الإيطالي، أو كـ “كلاب ضالة” و “جرذان” و “صراصير” مثلما صنفهم القذافي في أوقات مختلفة. وكثيرا ما تعرض الكتاب للرقابة والسجن والنفي.
“هذه الأبعاد تتحد في سرد القابلية للعطب، المقاومة والتضامن، مدعومةً بالصور المحلقة والتشرد والانكشاف”
خلال الربيع العربي 2011، الذي بدأ في تونس ومصر وبلغ ليبيا، بدا وأن الأوضاع استقرت لصالح تحسن حال الكتاب الليبيين. ومن باب المصادفة تزامنت ثورة 17 فبراير في ليبيا مع صدور العدد 40 من مجلة بانيبال: القص الليبي، وهو أول ملف تخصصه مجلة [غير عربية] عن الأدب الليبي. احتوت الـ 135 صفحة على أعمال تسعة عشر كاتبا ليبيا، اثنان منهم فقط سبق أن ترجمت لهما أعمال إلى الإنغليزية: إبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه. وكان واضحا من عناوين القصص القصيرة والمقتطفات الروائية ومحتواها في هذا الملف أن للحيوانات مكانا بارزا في القص الليبي.
في تقديمها للقص الليبي تشيد أولسوك بقصة قصيرة من العدد 40 من بانيبال، وهي قصة عمر الكدي “الحياة القصيرة العجيبة للكلب رمضان” 2010 التي ترجمها روجر موغر. تركز القصة على كلب تأخذه امرأة هولندية من ليبيا إلى هولندا. يشتهر الكلب حين تنجح المرأة في ضمان حق اللجوء له.
عقب الإطاحة بالقذافي أعاد الكدي كتابة القصة بحيث أصبحت رواية في 2013 بعنوان “حروب ماريش وثوراتها الثلاث”. تقدم الرواية شخصيات جديدة، بمن في ذلك القذافي نفسه، الذي يطالب بعودة الكلب. “توحي الرواية، في سرد مُقنَّع ومجازي، بوجود إمكانيات مغرية لليبيين لدخول عالم القص، بعد عقود من الوجود على هامشه”.
تقول أولسوك أن كتابها يتتبع بشكل أساسي الرواية الهجينة hybrid ذات البنية المتشظية، واللاواقعية، الراسية على رواية النيهوم المؤسسة “من مكة إلى هنا” 1970، حتى 2011حيث تغير المشهد الروائي تغيرا عميقا.
تستكشف في الفصل الأول الخرافة الخاصة بالحيوان في روايات “النجاة” مثلما تجسدت في روايات النيهوم، والفقيه والكوني، باعتبارهم ممثلين لجيل الستينيات.
تركز على أبعاد النقد البيئي بعد الاستعمار في رواية النيهوم “من مكة إلى هنا” والفقيه “فئران بلا جحور” (ترجمت سنة 2011 من قبل ثريا علام وكريستوفر تنغلي) التي نشرت في حلقات سنة 1966 ولكنها لم تكتمل وتطبع إلا سنة 2000. ورواية الكوني “نزيف الحجر” 1990 (ترجمت من قبل مي جيوسي وكريستوفر تنغلي 2002).
في الفصل التالي تتناول رواية النيهوم “القرود” 1984، وثلاثية الفقيه 1991 “حدائق الليل” (1995، ترجمة: راسل هاريس، أمين العيوطي، ثريا علام) ورواية الكوني “أنوبيس” 2002 (ترجمة: وليم ام هتشنس 2005). تمثل هذه الروايات انعطافة من البيئي إلى السياسي.
في الفصول اللاحقة التي رتبت زمنيا بشكل تقريبي حول مواضيع واسعة، تتفحص أولسوك روايات عبد الله الغزال، منصور بوشناف، محمد الأصفر، أحمد الفيتوري، أحمد يوسف عقيلة، وآخرين.
في فصل أعطته عنوان “الرواية الليبية في أصوات أخرى” تستكشف رواية هشام مطر الأولى “في بلد الرجال” التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة مان بوكر، ورواية كمال بن حميده “تحت سماء طرابلس، 2014 ترجمة [عن الفرنسية] أدريانا هنتر. في هاتين الروايتين “تُوازَن المسافة بين الكتابة بالإنغليزية والفرنسية بالاستحضار الحميم للأوصاف التخيلية والحسية لدى الأطفال، المرتبطة بالعالم الطبيعي من حولهم”.
أصبح للكاتبات حضور متزايد في المشهد الأدبي الليبي، رغم نضالهن ضد القمع السياسي والأبوي. وتُولي أولسوك انتباها خاصا لرواية رزان نعيم المغربي “نساء الريح” 2010، التي نشر منها مقطع في العدد 40 من بانيبال بترجمة وليام ام هتشنس، التي دخلت القائمة الطويلة لـ “الجائزة العالمية للقص العربي” وكذلك إلى رواية نجوى بن شتوان الأولى “وبر الأحصنة” 2006، المروية في معظمها من قبل جنين. رواية بن شتوان الثانية “زرايب العبيد” وصلت سنة 2017 إلى القائمة القصيرة لـ “الجائزة العالمية للقص العربي” وترجمت من قبل نانسي روبرت 2020، وفي سنة 2018 تحصلت على زمالة كاتب بانيبال الزائر في كلية سانت إيدانز، بجامعة درهام ببريطانيا.
في الفصل الختامي “تذييل: الحميات المتفجرة والتحولات الغريبة” تتحدث أولسوك عن حرية التعبير والنشر التي أعقبت ثورة 2011. منذ ذلك الوقت ومع الحرب الأهلية الجارية “واجه القص حاضرا مظلما ومستقبلا متزعزعا، إلى جانب الضغط المستمر من الرقابة، أدى به، مجددا، إلى الهامش”
بيد أنه توجد، على أية حال، بعض النقاط المضيئة. فهي تقدم عرضا كاملا ومثيرا لرواية منصور بوشناف الجديدة “الكلب الذهبي” المكملة لروايته التي مدحت كثيرا “العلكة” 2008 (ترجمة: منى زكي 2014).
كتاب أولسوك المتميز مقيض له إثارة الاهتمام بالأدب الليبي، ويعد إسهاما كبيرا في دراسات الأدب الليبي والعربي. ويحدونا الأمل في أنه سيحفز الناشرين على ترجمة ونشر أعمال لكتاب ليبيين.
هوامش:
* هذا عرض كتاب كارِس أولسوك:”الرواية الليبية: البشر والحيوانات وشعرية قابلية العطب”
The Libyan Novel: Humans, Animals and the Poetics of Vulnerability
by Charis Olszok ,Edinburgh University Press, Scotland, July 2020
** Susannah Tarbush:
قصاصة وروائية وصحفية ومدونة إنغليزية، وهذا العرض نشرته الكاتبة في مجلة بانيبال ع 69 خريف- شتاء Banipal 69, Autumn/Winter 2020
وأحب هنا أن أسدي عميق امتناني للكاتبة التي تفضلت، بناء على طللبي، بإرسال أصل مقالها المخطوط بصيغة Word.
*** تستخدم أولسوك ثلاث ألفاظ fiction, narrative, novel فترجمنا fiction القص حيث يشمل القصة والرواية، وترجمنا الثانية السرد، ثم الرواية.
**** هذه نظرة محنطة يتمسك بها الكتاب الأجانب، عربا وغير عرب، إزاء الوضع السكاني الليبي.