“البسيسة”.. قوتُ المرفّهين في زمن القحط
خاص 218
أحلام المهدي
كان الجوع غولاً يحاول التهامهم، لكن الأرض التي بزغوا منها إلى هذا العالم لم تسمح له بذلك أبدا، فأمدتهم بما يسدّ رمقهم ويُبقيهم على قيد الحياة، دون أن تسمح لأنيابه بافتراس روح الحياة فيهم، إنها “النِّعمة” التي كانت تقطع بسواعد الأجداد وأنامل الجدّات دربا طويلا كي تستقر في البطون الخاوية، إنه “المطبخ الليبي” الذي قام أساسا على “منادر” القمح والشعير، عندما كان الأجداد يحتفون ببذر حبّاتها في رحم الأرض، تماما كما يحتفون بولادة هذه الحبات في سنابل تكتظ بها.
من “البازين” إلى “البسيسة” مرورا ب”الدّشيشة”، كانت الوجبات الليبية البسيطة قائمة على القمح والشعير دون غيرهما، فكانت لوقتٍ طويلٍ طعام الليبيين البسطاء الذين قد يعجزون عن توفير البدائل المتعدّدة التي تعتمد على النقود وعلى قرب المحالّ التجارية من القرى والأرياف التي يتعلّق ساكنوها أكثر من غيرهم بهذه الوجبات الليبية الأصيلة، لكن ما تمرّ به البلاد اليوم عقّد كل الأمور، فطال غلاءُ الأسعار القمحَ والشعير أيضا، إضافةً إلى القفزات التي شهدتها أسعار باقي مكوّنات هذه الأكلات التي تكيفت مع الوقت وأصبحت تضم في مكوناتها الكثير من المواد التي صار الحصول عليها اليوم ضربا من الرفاهية.
“البازين” الذي ارتبط بالحجم الكبير لقطع اللحم “الوطني” يستطيع أن يسبح في بحيرة صغيرة من “طبيخة” البقوليات، أما “البسيسة” التي كانت تقوم على القمح وبعض الأنواع من البقوليات والمكسّرات قد يختصرها البعض في ثلاثة أو أربعة مكونات يتيحها الوضع المالي، ورغم ذلك فقد تحوّلت هذه الأكلة “الصفراء” اللذيذة خاصة مع برد الشتاء إلى نوع من الرفاهية، بعد أن راوح سعر الكيلو الواحد منها بين العشرين والثلاثين دينارا، إضافةً إلى اعتماد إعدادها على “زيت الزيتون” الذي وصل سعره أيضا إلى أرقام خيالية يعجز عنها الليبي الذي تقبع نقوده في حسابه المصرفي، دون أن يجد إليها سبيلا.