الاستقطاب العاطفي والاصطفاف الطوعي
رمزي الجدي
ما سبب هذا الاصطفاف خلف الزعامات السياسية والدينية وبشكل متطرف يصل إلى حد الصدامات والاقتتال؟
لماذا يرفض العديد من المثقفين في ليبيا سلوكيات القطيع لكنهم لا يجرؤون على التصدي لها؟
لماذا يرفض المصطفون سياسيا أي إنسان متمرّد على هذا الاستقطاب الذي يستهلك الفكر ويهين الذكاء؟
في بلاد انعدمت فيها روح النقد لمدة أربعة عقود ولم تعرف إلا التبعية للزعيم وخطاب الزعيم وكيف يلبس الزعيم وكاريزما الزعيم، تحول فيها المواطن إلى مواطن تابع فكريا لكل ما يقوله أو يهمس به الزعيم، وليست لديه أي قابلية للتفكير بعقلانية بعيدا عن تبعيته للزعيم، ولم يكن بوسع الفرد أن يستنكر هذه التبعية أو يرفضها أو يتملص منها لسبب بسيط وهو أن هذه التبعية وفرت للجميع الحماية من جهة ومهربا لائقا من جهة أخرى، وأصبحت مبررا لتفسير السلوك العام بكل نقائصه، واستمرت هذه العقلية حتى بعد 17 فبراير كإرث ثقافي في المجتمع حتى مع انتشار التعليم وانفتاح المجتمع على المجتمعات الأخرى. ما يزال الكثير من الناس وخاصة المتعلمين والذين يرفضون سلوكيات القطيع لكنهم لا يجرؤون على التصدي لهذه السلوكيات حتى لا يتهموا بالخروج عن الجماعة أو الشذوذ وهو الأمر الذي دعم حضور عقلية القطيع التي لا تستوعب.
شريحة قطيع الخراف لن تستوعب أبدا أن هنالك إنسان متمرد على الاستقطاب الذي يستهلك الفكر ويهين ذكاء المواطن، إنسان يفكر بعقله في كل ما يدور حوله و لا يقبل ما يسمع أو ما يرى دون أن يعمل عقله، أن المرء يمكن أن يكون حرّاً فكرياً، لا يتبع شخصا أو تيار أو مجموعة دون وعي، إنسان متحرر من أي تبعية، وأن لديه مسافة نقدية متساوية مع جميع الأطراف، وأنه لا ينقاد كالخروف وراء توجه دون آخر، لأن هذه التبعية الحيوانية يتطلب الخلاص منها بعض الجرأة الأدبية والفكرية، والصدق مع الذات وهذا ما لا يملكه أفراد هذه الشريحة. لأن هذا الأمر يتطلب فتح العينين وإعمال العقل والتفكير، وهذه تعتبر جريمة في مجتمع متخلف يغلب عليه الخمول الفكري والتبعية الطوعية.
إن مصيبتنا الآن في ليبيا هي الاستقطاب العاطفي والاصطفاف الطوعي، بمعنى الاصطفاف وراء جهة دون أخرى لأسباب لا علاقة لها بالمنطق أو الموضوعية، أغلب الأحداث التي تمزق النسيج الاجتماعي في ليبيا جاءت نتيجة الاصطفاف خلف نداءات الزعامات السياسية والدينية وبشكل متطرف يصل إلى حد الصدامات والاقتتال الذي يأتي بنتائج كارثة، بل يصل إلى حد نسيان أصل الخلاف نفسه، والانشغال بالدفاع عن تلك الزعامات المقدسة بل والدخول في مناوشات من أجلها، ينتج عنها سلوكيات مثل الانتقام و التشفي والاستهتار بدماء الليبيين والتمادي بسلب حقوق الطرف المقابل، والشواهد على ذلك كثيرة، جميعنا شاهد المشهد الإعلامي بعد كل التفجيرات الإرهابية التي استهدفت الأبرياء سواء في بنغازي أو طرابلس أو الفقها حتى التي حدثت في سبها منذ أيام، بالرغم من عدد الضحايا حتى قبل أن تجف دماء الأبرياء، برز علينا الانقسام في الرأي من أصحاب العقول المغيبة بحسب الولاءات بعيدا عن أصل الحدث، ويتخندقون خلف زعامتهم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والتي حاولت بشتى الطرق استثمار الحدث لتوجيه أصابع الاتهام للطرف الآخر بالضلوع في العملية الإرهابية في خطابات موجه للمواطن المغفل لتعبئته ضد الأخر، لنجد الانقسام على أشده بعد كل عملية إرهابية، والتي يفترض أن توحّد المواطنين في مثل هذه الظروف.
لقد ساهم هذا لاصطفاف الطوعي في هشاشة النسيج الاجتماعي في ليبيا وجعله رخوًا أمام الفوضى وأضعفه في مواجهة انهيار الاقتصاد وانعدام الأمن. وسلب مقدرات البلاد من موارد بشرية واقتصادية وإرجاع البلاد إلى العصور المتخلفة والقبلية وحروب داحس والغبراء ناقة البسوس كل ذلك سببه أن الشعب ارتضى لنفسه أن تسيّره أهواء وأمزجة بعض الفاشلين المدعين للوطنية بحسب ما تقتضي مصالحهم ومخططاتهم، حتى صار الشعب منقسماً على نفسه، يحركه هؤلاء الساسة كيفما يرغبون وبما يتفق ومصالحهم التي لا تخدم إلا الدول التي توجههم بعناوين تعزف على وتر العاطفة التي تدغدغ مشاعر المجاميع المنفصلة عن مصدر العقل والمنطق.
تجارب المجتمعات والدول غيرنا علمتنا أنه في “نظام الاستقطاب” الكل خاسر، حتى من يظن انه حقق نصر زائف بإقصاء الأخر، فالحروب الأهلية على مر التاريخ أفقدت الجميع قوته حيث لا طرف منتصر على طرف بل هي استنزاف وهدر لمقدرات الشعوب لصالح أعدائها.
إن الخروج من عنق الزجاجة یتأسس على منظومة ثوابت هوية دولة المواطنة التي یبنى علیھا نظام إدراكي متماسك برؤیة الوقائع والأحداث في سیاقھا الحقیقي, لذا يجب علينا أولا أن نتحرر من عبودية الأشخاص وأن نخرج من رداء الولاءات لتلك الزعامات الجماعات التي هي أساس الخراب والدمار والقتل، وأن نتوحد من أجل إنقاذ ليبيا وإيقاف شلالات الدم التي طالت كل بيت في ليبيا، وأن لا نقبل بالتبعية لأحد أو أن نقبل أن نسمع لبوق في الإعلام يخاطبنا من خلف المحيطات لكي يرسم لنا المشهد واقعنا الذي نعيشه، فشباب ليبيا ضاع بسبب حماقاتنا والتفافنا ودفاعنا عن القاتلين والسارقين.
ما ینقصنا في ليبيا ھو الاستقلال الفكري المبني على تراكم معرفي، فنحن في حاجة إلى كثير من الجهد والعمل، وإلى عدد كبير من الأفكار والوسائل التي يمكن بواسطتها إعادة صياغة تشكيل وبناء عقول الشباب ليكن كل منهم قادرا على المشاركة برأيه وفكره في كل قضية والمشاركة الفعالة في إدارة دفة المجتمع، ومساهما في بنائه ورسم مستقبله. فإن أي نهضة لا يمكن أن تتحقق بعقول خنوعة تقاد كالخراف.