الارتجال كتابةً
عمر أبو القاسم الككلي
مع بداية السنة الخامسة الابتدائية انتقلت من مدرسة القِرْوِدْ [في إذاعة أسماء الناجحين في الشهادة الابتدائية قرأها المذيع: مدرسة القُرُود] إلى مدرسة قوز زناتة. بعد إتمام إجراءات النقل صحبني مدير المدرسة شخصيا إلى الفصل الذي سأنضم إليه [كان ثمة فصلان: خامسة ا وخامسة ب] أمام باب الفصل صادفْنا مدرسا [بدا أنه خارجٌ من دورة المياه] قال لي المدير:
– هذا أستاذك.
كان شابا [وقتها كنت أراه رجلا كبيرا] طويل القامة أنيقا ووسيما، يرتدي كنزة لونها بني فاتح، وأنا أحب هذا اللون. كان أستاذ اجتماعيات ورياضيات وكان اسمه الصِّدِّيق. وبادر بمصافحتي بيده التي مازال بها بعض البلل. المهم أن حضوره وموقفه تركا في نفسي أثرا طيبا.
كان الفصل الذي أُلحقت به فصل خامسة ب. جلست في المقعد الذي طلب مني الجلوس فيه. لم أعد أذكر من كان جليسي على نفس المقعد. دخل الأستاذ الصديق وكانت حصة تاريخ. سألني:
– لوين وصلتوا؟.
قلت له:
– أهم القبائل وحضارتهم.
طبعا القبائل الليبية القديمة.
لا أذكر الآن إن كنا متقدمين أم متأخرين عنهم في المنهج.
المهم أنه أخذ يشرح الدرس، بعد أن انتهى جاء دور الأسئلة. سأل سؤالا فرفعت يدي.
أشار إليَّ، فنهضت وأجبت على السؤال بالحديث العامي. سأل سؤالا آخر وطلب من تلميذ آخر الإجابة، فأجاب بالفصحى (طبعا فصحى تلميذ في السنة الخامسة الابتدائية).
قلت في نفسي:
– همَّا هكي يبوا؟؟!!.
كان هدفي أن أثبت وجودي وألفت النظر إليَّ منذ البداية.
ترصدت طرحه لسؤال آخر فرفعت يدي وطلب مني الإجابة. فأجبت بالفصحى!.
*
في أول حصة إنشاء كتب أستاذ اللغة العربية والدين، يوسف الكرداسي (الذي غمرني بفضل خاص وأصبحت له في نفسي مكانة متميزة)، عنوان الموضوع على السبورة. وطلب من تلميذ، اسمه أبو بكر أبو صبيع، النهوض وكتابة الموضوع على السبورة مباشرة.
نهض أبو بكر وكتب.
بعد أن انتهى، رفعت يدي!.
سألني الأستاذ يوسف بنوع من التفاجؤ:
– تقدر؟!.
فهززت رأسي مؤكدا.
نهضت وكتبت.
بعدها أصبحت أنا من يَطلب منه الأستاذ يوسف كتابة موضوع الإنشاء على السبورة مباشرة.
كان أبوبكر ضئيل الحجم، في شكله لطف وألفة، وفي سلوكه دماثة ورقة، واللافت أنه لم يبدِ أي ضيق إزائي أو انزعاج مني أو كره لي لأنني حللت محله. أصبحنا أصدقاء بيننا مودة رهيفة حدَّ أننا في السنة التالية كنا، في المدة التي تسبق الامتحانات النهائية، نذاكر معا يوميا في بيته. وفوجئت بزيارته لي في الأيام الأولى لخروجي من السجن.
ولِما يتميز به الأستاذ يوسف الكرداسي من حس تربوي لم يعد، بعد مدة، يكتفي بإنهاضي لكتابة موضوع الإنشاء على السبورة، وإنما أخذ يُتبعني بأبو بكر أيضا ويفسح المجال لمن يريد أن يكتب.
كان الأستاذ يوسف معجبا جدا بقدرتي الإنشائية، وقال لي مرة بأن مستواي الحالي في الإنشاء يكفيني إلى المرحلة الجامعية. وأخبرني بعض زملائي أنه تطرق إلى هذا مرة في غيابي قائلا أنه بإمكان عمر أن ينشيء صحيفة عندما يكبر.