الاحتلال الأجنبي والاحتلال المحلي
سالم العوكلي
يدور الآن الحديث من قبل عديد المحللين عن مصير الشعب الأفغاني الذي وضعته أمريكيا بين يدي حركة طالبان المدرجة ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية ، عن طبيعة هذه الحركة بعد 20 سنة قضتها في الجبال بين أفغانستان والباكستان، وهذا الحديث يحاول أن يتلقط ومضة أمل عند البعض بكون عقلية وعقيدة هذه الحركة تغيرت. غير أن الجميع يتجاهل الطرف الآخر وهو الشعب الأفغاني الذي يناهز الأربعين مليون نسمة، لأن في الواقع هو الذي تغير بعد 20 سنة حصل فيها الكثير مما غير العالم برمته، مراكزه وأطرافه وهوامشه.
طبيعة حركة طالبان لن تتغير لأن بنيتها الفكرية غير قابلة للتكيف مع أي وضع جديد، وهي خلال هذين العقدين لم تكن تدرس في أكاديميات، أو تتردد على مكتبات، أو تتلقى ورشا في علم السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد، أو غيرها مما تتطلبه إدارة أمة كبيرة مثل أفغانستان، فطيلة هذه الفترة التي قضى أو شاخ فيها جيل وولد جيل جديد، كانت متشردة في الجبال لا تتدرب سوى على القتال والتفخيخ وتنفيذ العمليات الانتحارية التي كانت في معظمها ضد الأفغان الأبرياء أنفسهم.
تغير المجتمع الأفغاني كثيرا خلال هذه السنين التي طلع فيها جيلان جديدان لهما رؤى وطرق عيش مختلفة، في المدن والأرياف خصوصا، وخرج ماردهم من القمم ولا سبيل لحركة طالبان كي ترجع هذا المارد سوى باللجوء إلى العنف كسبيل واحد تدربت عليه منذ إنشائها، وتملك خبرة فيه، خصوصا فترة حكمها السابق لخمس سنوات استمرت من 1969 إلى 2001 أذاقت خلالها المجتمع الأفغاني الأمرين، خاصة المرأة التي تحولت في عصرهم إلى دابة وظيفتها الخصوبة ووعاءً لإنتاج المزيد من القتلة التي تستلم الحركة تنشئتهم وتربيتهم على فكرها الظلامي.
المرأة الأفغانية التي نراها الآن تخرج في مظاهرات، وتقاوم من خارج الحدود ومن داخلها هذه الظلامية الغازية، ليست نفسها المرأة قبل 20 سنة، وحيث تحت شعار (لا تلمسوا ملابسي) تنشط حركة نسائية تدافع عن الألوان، وعن خصوصية وإرث المرأة الأفغانية التي يحاول الطالبانيون مسخها إلى شبح أسود لا يحق لها الخروج إلى الشارع إلا برفقة مَحْرم، ولا يحق لها الذهاب إلى العمل أو المدرسة، وليس أمام حركة الطالبانيين المتحدرين من الخرافة سوى استخدام العنف، لكن أيضا فيما يخص المرأة خرجت الجنية من قمقمها ولا سبيل لإرجاعها.
أفغانستان الآن ليس مثل قبل 20 سنة، حين كانت ترتكب طالبان جرائمها ضد الإنسانية في الظلام، ولعل المَشاهد التي صُورت لانتهاكاتهم في الأيام الأخيرة تؤكد هذا الفارق الجوهري، فخلال عقدين اندمج الأفغان في ثورة الاتصالات الجديدة، وصار في جيب كل مواطن كاميرا متصلة بالعالم، وقادرا على أن ينشر ريبورتاج يوثق جرائم الحركة في أي وقت. وايضا مارد التقنية خرج من القمقم ولا سبيل لإرجاعه.
البعض يتحدث عن شرعية طالبان بكونها حركة مقاومة ضد احتلال أميركي، وهذا يبدو مسلما به شرط أن نعيد قراءة مفاهيم المقاومة والاحتلال.
الاحتلال ليس شرطا أن يكون أجنبيا، فأي حزب أو تشكيل أو تنظيم أو مجلس عسكري يحاول أن يحيل المجتمع إلى نسخة منه، ويملي عليه طريقة حياته اليومية، هو احتلال سواء كان أجنبيا أو محليا، وبالتالي في وجه أي احتلال ــ أجنبي أو محلي ــ ستتشكل مقاومة، هي لا تدافع عن وطنها فقط ولكن تدافع عن حياتها وحرية خياراتها.
سواء حمل الأجنبي أو المحلي السلاح في وجهك لتكون كما يريدك هو فكلاهما احتلال، ويظل الاحتلال المحلي أكثر شناعة وفتكا، لأنه يحتمي بلافتات، مثل: السيادة الوطنية أو القانون الدولي أو المطالبة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ولب هذه الشؤون الداخلية هو التنكيل بالمجتمع ومحاولة مسخه في صورة واحدة تشبه صورة المتسلط الذي لا يملك غالبا شرعية سوى احتيازه على السلاح والسجون ومصادر الدخل بالقوة.
حين بدأت ثورة فبراير، وأصبحت المدن تخرج عن سيطرة النظام، كان المصطلح الذي استُخدم تلقائيا (تحرير) تحرير المدن أو المدن المحررة، ورغم أن ليبيا لم تكن محتلة من قوة أجنبية إلا أن هذه المصطلحات التلقائية نبعت من وجدان ومن وعي، أو من لاوعي، أناس عاشوا لسنين طويلة تحت نير سلطة شرسة تحاول مسخ هوية المجتمع وجعله على شاكلتها، بل على على شاكلة شخص واحد يتحكم في كل تفاصيل الحياة اليومية، وعاش الليبيون لفترة طويلة دون دستور ودون القدرة على اختيار سلطتهم الشرعية، ودون حرية احتجاج أو تعبير، أو حتى حرية تنقل عندما كانت البوابات الأمنية والثورية الشرسة منتشرة على كل الطرق ترعب وتهين المواطنين. تحدث سجناء الرأي عن سجن بورتا بنيتو (الحصان الأسود) الذي بناه موسيليني بنوافذ واسعة وضيق النظام الليبي الغازي نوافذه بمساحة طوبة أسمنتية.
لفترة طويلة تحكم النظام في مصدر دخل الليبيين واحتكره وسرقة كاي احتلال أجنبي، وحوله إلى مرتبات بعد أن أجهز على القطاع الخاص، وجعل الشعب طوابير أمام المصارف من أجل بقايا فتات من ثروتهم التي تمتع بها المحظيون من (الغزاة المحليين) وكثير من الشبيهين لهم من أصقاع الأرض. لهذا ولأسباب كثيرة كان الليبيون الذين بدءوا يتذكرون أيام الإنجليز وحتى أيام الطليان الأخيرة ببعض الإيجابيات، أن من يحكم هذه البلد غزاة خرجوا بكل سمات الغزو من الداخل، فكان تعبير (تحرير المدن) أو (خطاب التحرير) الذي ألقي بعد سقوط النظام تعبيرا طبيعيا أفرزه التاريخ والمعاناة وقاموس الألم، والألم يكون مضاعفا حين يغزوك ابن جلدتك ويتحكم فيك بالسلاح والسجون ويصادر حرياتك، وحين يحتل فصيل مسلح الوطن ويسخره لنفسه ومريديه، ويصبح فيها الليبيون مثل جالية أجنبية كل فترة يجددون إجراءات جنسيتهم مثلما يجدد الأجانب إجراءات إقامتهم.
وما تعانيه ليبيا الآن من فوضى وحروب واضطرابات يشبه الفترات التي تعقب كل نهاية احتلال أجنبي، ومثلما يحدث الآن في أفغانستان بعد خروج الاحتلال الأمريكي الذي كان له آلامه، لكن سوف لن تقاس بألم السنوات القادمة تحت حكم طالبان، لأن المجتمع الأفغاني تغير ولن يستسلم لهم كما استسلم قبل عقدين، ولأن العنف في أبشع وجوهه هو الخبرة الوحيدة التي تملكها هذه الحركة، ولأن دماء الأفغان التي ولغوا فيها ستحيلهم إلى وحوش، فهم في حاجة إلى إعادة تأهيل نفسي كامل كي يندمجوا في المجتمع وليس ليحكموه، لأنهم ببساطة لا يستطيعون إدارة دولة كبيرة مثل افغانستان، وقبلهم فشل كل حاملي أطروحة الإسلام السياسي ممن درسوا في جامعات الغرب، في مصر وفي السودان وفي تونس وليبيا وفي المغرب وفي إيران، ما بالك بإسلام سياسي قادم من كهوف الجبال يطبق شريعة على مجتمع لا يعرف اللغة التي نزل بها كتابها، والذي مازال أهل لغته العربية مختلفون حتى الآن حول مفهوم الشريعة.
الإسلام /السياسي مفردتان متضاربتان مثل نيران صديقة أو حرب نظيفة أو دكتاتور عادل ، أو رصاصة الرحمة. مفردتان لا يمكن تجاورهما إلا في لعبة لغوية خبيثة، لأنهما، تلقائيا، إحداهما تقصي الأخرى، أو إحداهما تفجر الأخرى مثل فتيل عالق بها . ومثلما الرصاصة لا يمكن أن تكون رحيمة، والدكتاتورية لا يمكن أن تكون عادلة، فالإسلام لا يمكن أن يكون سياسة. إنه خلل بنيوي لا يمكن إصلاحه بإضافة مفردات رطبة مثل (المعتدل) أو (الليبرالي) او (المتوازن) أو مقولات مثل تجديد الخطاب الديني وغيرها من الهراء. لأن الدين في الأساس شأن روحاني فردي، والعمل على تحويله إلى أيديولوجيا او جماعات يفرغه من هذا المحتوى الروحاني، ويلقي به في معارك لم تكن في الأساس من مهمته ولا حِمل له بها، ويجعل مروجيه يتساقطون تباعا بنسخهم الجيدة والرديئة، لأن الناس ستكتشف في النهاية أن مشروع ما يسمى الإسلام السياسي مجرد لعبة لغوية خبيثة، وأنهم، الناس، أدرى بأمور دنياهم.