الأستاذ أحمد الغزواني: حياة حافلة بالجمال
سالم العوكلي
يوم 27 أبريل 2010 احتفلنا بعيد ميلاد الأستاذ أحمد مفتاح الغزواني التسعين بجمعية بيت درنة الثقافي ، وسط حشد من الأطفال وأصدقائه ومنتسبي البيت. كان لا يغيب عن أي نشاط يقيمه بيت درنة أو أية جهة أخرى، تراه دائما في المقاعد الأولى ــ ببذلته وربطة عنقه وهندامه الأنيق الذي لا يخرج بدونه ــ يتابع كل ما يحدث عن كثب ويتفاعل معه.
في شهر يونيو كان يداوم على متابعة مباريات كأس العالم 2010 المقام بجنوب أفريقيا ، بباحة بيت درنة الثقافي ، وهو يحدثنا عن ذكرياته لأول كأس عالم تابعه العالم 1938 ، عبر الراديو وعمره 17 سنة ، وكان حسب اعتقادي الشخصي المتفرج الأقدم الذي واكب 16 دورة لكأس العالم سماعيا ومرئيا، حريصا أن يكون في المقاعد الأولى مشدودا إلى الشاشة الضاجة بالألوان، يشجع المنتخب الإيطالي بحماس، باعتباره المشجع المخضرم لفريق اليوفي ، منتقدا بحدة المعلقين الذين يستغرقون في الحديث عن أشياء أخرى ويتركون المباراة التي أمامهم ، فيحدثنا عن أيام زمان عندما كان معلقو مباريات كرة القدم في الراديو ينقلون الأحداث وكأنك تراها. وبدون استسلام لوطأة الزمن كان يسأل عن ملفات الكؤوس القادمة والمدن المرشحة للاستضافة، فهو ببساطة كان يعانق الحياة كأنه يعيش أبدا، لذلك كانت حياته ثرية بكل معنى الكلمة.
حدثني ابنه مفتاح عندما كان معه في المستشفى ببنغازي، وكان بجواره على السرير يحدثه عن بيت درنة الثقافي وما تعرض له من اعتداء من الظلاميين ، ثم قال له : الآن أريد أن أنام. فخرج ابنه قليلا إلى الممر وحين رجع وجده قد أسلم الروح، فكان لا بد لعاشق للحياة أن يغادرها بهذا الهدوء، وكان آخر ما تحدث عنه بيت درنة الثقافي الذي كان أحد رواده والمدافعين عنه، حيث مقعده الخاص الوثير دائما في انتظاره في الباحة.
أحمد الغزواني من رواد التصوير الضوئي في ليبيا، فهو أول من فتح محلا للتصوير في درنة في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي العام 1951 طلب منه رئيس جمعية عمر المختار ببنغازي السيد: مصطفى بن عامر، تصوير وتوثيق مراسم دفن الشاعر إبراهيم الأسطى عمر، وقال لي في تلك الفترة كان التصوير في المقابر معيبا اجتماعيا ومحرجا من باب احترام الحزن، لكن بن عامر لا يُرد له طلب، فاضطُرِرتُ لاختلاس تلك الصور، وهي الصور الوحيدة التي توثق ذلك الحدث المهم الذي تميز بأن كل الحاضرين لمراسم الدفن كانوا يرتدون بذلات وربطات عنق سوداء.
وظلت شركة كانون اليابانية الرائدة في صناعة الكاميرات متواصلة معه كزبون حتى آخر أيامه، وبعثت له كاميرا رقمية هدية العام 2007 كان يلتقط بها صور كل احتفال ثقافي أو فني يحضره، وفي عمر التسعين حتى رحيله كان من رواد الإنترنت وله إيميل يتواصل عبره مع أصدقائه في العالم، أحدهم صديقه الألماني الذي يحتفظ له بدراجة إضافية في بيته في برلين، وقال لي حين أذهب إليه نستقل دراجتينا ونتسكع معا في شوارع برلين، كان من رواد مقهى الإنترنت المفتوح مجانا في صالة ببيت درنة وطلب مني مرة أن أطبع له دعوة على الطابعة، وكانت هذه الدعوة من الجامعة الأمريكية لحضور حفل ذكرى تأسيسها الـ 140 الذي أقيم العام 2006، باعتباره أحد روادها من الليبيين، ودرس بها طرق تعليم اللغات الأجنبية في أربعينيات القرن الماضي. أولاده وأحفاده كان يخافون عليه حين يخرج حتى في شوارع درنة ودائما ما يأتي ابنه أو حفيده ليلاً إلى مقر بيت درنة الثقافي من أجل اصطحابه إلى البيت، لكن ابنه قال : رغم خوفنا عليه كثيرا ما نتفاجأ به يتصل بنا من بنغازي أو طرابلس، أو تونس أو الجزائر أو السعودية أو لبنان، فهو لا يخبرهم بوجهته إلا بعد أن يصل حتى لا يصرون على أن يسافر معه مرافق، وهو من يحب السفر وحيدا وكما يحلو له.
في حفل الجامعة الأمريكية طلب من القائمين على الحفل رقم هاتف صديقه المؤرخ نقولا زيادة الذي رافقه عندما كان في ليبيا نائباً لمدير إدارة المعارف الإنجليزي المستر غوردون، في فترة الانتداب البريطاني في برقة، لكنهم أخبروه أنهم لا يستطيعون إعطاء رقم هاتف الدكتور زيادة لأحد إلا بعد استشارته، فطلب منهم الاتصال به وإخباره بأن أحمد الغزواني من ليبيا يرغب في زيارته، وكان رد زيادة: أحضروه لي حالا. وزاره في بيته ببيروت كما قال لي : في جلسة شاي حميمية تحدثنا عن ذلك الزمن وعن ذكرياته في ليبيا وما يحمله لها من محبة خاصة.
ولد الأستاذ أحمد الغزواني بدرنة بتاريخ 27 أبريل 1921 ، أخبرني مرة أنه أثناء تحصله على دورة في اللغة الإنجليزية التي كان يدرس مادتها منذ الأربعينيات، أقام مع عائلة إنجليزية وحين حضر في أحد الأيام مساء فوجئ بأن العائلة التي اطلعت على تاريخ ميلاده في جواز سفره قد جهزت له حفل عيد ميلاد فخم، وقال: من يومها وأنا أحرص على هذه العادة سنويا، أصدقاؤه في درنة كانوا في كل ذكرى ميلاد يقيمون له حفلا خاصا أساسه وجبة بازين بها شموع، لذلك اضطررنا حين قررنا إقامة حفل عيد ميلاد التسعين أن نذهب لأصدقائه لنستأذن منهم على وعد أن يأتيهم بعد احتفالنا لأنهم كانوا قد جهزوا له كل شيء.
انتقل الغزواني إلى جوار ربه بتاريخ 27 يوليو 2012 عن عمر ناهز 92 عاما (والمفارقة أنه رحل في اليوم نفسه، 27 يوليو، الذي رحل فيه نقولا زيادة العام 2006) . رحل المُعلِّم المَعْلَم، أحمد الغزواني، تاركا سيرة ثرية من العمل والسفر والكتابة، وأرشيفا من الصور النادرة، وذاكرة قِيَمٍ نبيلة وملهمة؛ أهمها التسامح والاحتفاء بالحياة والمراهنة على الثقافة والجمال والاهتمام بالطفولة والتعليم كمشروع وطني.