اغتيال على طريق الحرية.. الحرب على الإرهاب.. 6
عبدالله الغرياني
الحرب أسوأ الخيارات التي يمكن من خلالها إنقاذ مستقبل الأوطان والشعوب، ولإنقاذ مستقبل بنغازي وأهلها كان لا بد من اتخاذ هذا الخيار ليتم من خلاله إنهاء إرهاب الكتائب والفصائل المسلحة التي حوّلت المدينة لبحيرات من الدماء وجعلت عناوينها الاغتيالات والتفجيرات وفي سطورها الخطف والتغييب مع ارتفاع الرايات السوداء في شوارعها، وانطلاق خطاب التطرف والتكفير، فمن يعارضهم فهو المرتد الذي لا يريد تطبيق شرع ودين الله.
بنغازي مدينة بحجم وطن عُزلت وتُركت لتُذبح على يد عناصر هذه الكتائب والفصائل المسلحة، معسكرات القوات النظامية التابعة للجيش فارغة ولا قدرة لدى أمرائها العسكريين على إعلان الحرب، فمستوى الدعم والإمكانيات الذي يُقدم من السلطات للكتائب والفصائل المسلحة أعلى بكثير من المُقدم للقوات العسكرية النظامية، ومن خلال هذا الواقع لم يكن أمام التيارات المدينة إلا الاستمرار في الضغط على السلطات ومطالبتها بدعم الجيش والشرطة ضمن تحركات مدنية قادها صفوة من النشطاء والذين أطلقت عليهم وصف “نشطاء الصف الأول”، وهم الذين تصدروا صفوف الثورة السلمية وناضلوا لأجل الوصول للحرية، ورغم هذا الحراك استمر في المقابل كان انهيار الوضع الأمني في بنغازي ليظهر لنا شعاع أمل تمثّل في عودة القوات الخاصة “الصاعقة” من مدينة سبها إلى بنغازي بعد تكليفها من قبل رئيس الأركان الموالي لمنظومة الظلام بحماية مدينة سبها، مع تكليف كتيبة شهداء الزاوية لحماية مدينة سرت، تركت هذه القوات النظامية فراغاً داخل بنغازي، الأمر الذي جعل الكتائب والفصائل الموالية للإسلاميين تتمكن في بسط سيطرتها بأريحية على المدينة، وفور وصول القوات الخاصة “الصاعقة” بعد “جمعة إنقاذ بنغازي” بأسابيع تعرضت آلياتها للرماية المباشرة أثناء مرورها من بوابة القوارشة من قبل كتيبة أنصار الشريعة، وكأنهم يُرسلون إشارة إلى أن عودة القوات الخاصة هو إعلان للحرب، لتبدأ موجة اغتيالات استهدفت جنود القوات القوات الخاصة والسلاح الجوي والقوات البحرية، ومع دخول عام 2013 أصبحت المواجهات علنية بين وحدات الجيش والكتائب والفصائل الإسلامية المسلحة، وتعددت في مراحل مختلفة من نفس العام دون تدخّل أو إصدار موقف من السلطات التي كانت تكتفي بالمطالبة بضرورة التهدئة لصالح هذه الفصائل، لتستجمع قوتها وتزداد نفوذاً مقابل انهيار وضعف وحدات الجيش.
في شهر يونيو من نفس العام اندلعت مواجهات بين مواطنين احتجوا بمنطقة البودزيرة أمام مقر كتيبة شهداء ليبيا الحرة المُشرعنة بقرار من المجلس الوطني الانتقالي باسم درع ليبيا 1 وآمرها “وسام بن حميد”، وأسباب الاحتجاج هو رفضهم لتواجد الكتيبة بالمنطقة ومطالبين أفرداها بالانضمام لمؤسسة الجيش، وقبل تصاعد الموقف خاض الطرفان مفاوضات انتهت بإصدار آمر الكتيبة الأوامر بإطلاق الرصاص الحي على المحتجين ليُطردوا من أمام مقر الكتيبة وينهوا احتجاجهم، وكانت الرماية مباشرة أدت لإصابة أعداد من المحتجين، ليتحول إطلاق الرصاص لتبادل بين الطرفين، الأمر الذي جعل رئيس الأركان يصدر أوامره للقوات الخاصة “الصاعقة” بالتدخل لإنهاء المواجهات والفصل بين المحتجين وعناصر درع ليبيا على أن تتسلم القوات الخاصة مقر درع ليبيا، ولكن ما أن وصلت آليات وجنود القوات الخاصة للمكان حتى انهال عليها عناصر كتيبة درع ليبيا برماية مباشرة ليرتكبوا مجزرة خلّفت 42 قتيلاً من المحتجين، وإصابة ما يقارب من 72 جريحاً ومقتل 8 جنود من القوات الخاصة وأعداداً من الجرحى، ليطلق أهل بنغازي على هذا اليوم اسم السبت الأسود بتاريخ 8 يونيو 2013، في هذا اليوم كنت على وشك مغادرة مكتب الاتحاد بالكلية ليبلغني أحد الرفاق عبر الهاتف بالأحداث، اتصلت فوراً بالراحل عبدالسلام المسماري الذي طلب مني التوجه لمستشفى الجلاء للحوادث فالأنباء لديه تفيد بوقوع عدد من القتلى والجرحى، انطلقت إلى هناك وصلت للمستشفى لأجد أمامي حالة من الفوضى والازدحام ركنت السيارة ودخلت وعند وصولي لقسم الطوارئ وجدت عدداً من الجرحى وترحيلاً لبعض المتوفين نحو الثلاجة التي تقع خارج مبنى المستشفى الجميع في حالة انهيار من هول ما نشاهده وأصوات الصراخ في كل زاويا وممر في المستشفى، أتذكر جيداً دخول مُسعفين يحملون جندياً من القوات الخاصة ورجله منفصلة عن جسده ويصرخ من الألم الذي يشعر به ورجله أمامه، ركضت مسرعاً لثلاجة حفظ الموتى لأجد أمامها تجمعاً من المواطنين دخلت للثلاجة لأرى جثث القتلى وآثار الرصاص واضحة على أجسادهم، البعض تم التعرف على هويتهم والآخرون وضعوهم في ركن عسى أن يأتي من يتعرف عليهم، خرجت للاتصال بالمسماري لأبلغه بهذا المصاب والكارثة وزودته بالأعداد التي رأيتها من القتلى والجرحى وأنها مازالت تتزايد، لم يستوعب هو الآخر الأمر وأصبح يقول لي “أنت متأكد أنت متأكد”، وأوكد له “نعم نعم”، وردد “لا حول ولا قوة إلا بالله”، غادرت الثلاجة متجهاً نحو مبنى المستشفى للمغادرة لأجد أمامي مُسلحين من القوات الخاصة يتقدمون ليعبر العقيد “ونيس بوخمادة” من بين المواطنين كان بملامح مليئة بالغضب خاطبته بصوت مرتفع بأننا نقف معه في هذه الأزمة، وكان يرافقه عضو المؤتمر الوطني العام “أحمد لنقي”، خرجت من المستشفى مرهقاً ومنهاراً لأعود للمنزل، ولم تمضِ دقائق حتى اتصل بي أحد الرفاق بالاتحاد ليبلغني بأن خال رفيقنا “محمد الشيخي” قُتل في المجزرة، أبلغته بضرورة اللقاء في اليوم التالي بالجامعة ليتم طباعة استنكار ونعي رسمي لضحايا المجزرة تتضمنها تعزية للرفيق “محمد”، انطلقت صباحاً للكلية وبعد الاتفاق على الصياغة قمنا بطباعة الاستنكار والنعي وقمت بتوقيعه وختمه ليتم وضعه في لوحات الإعلانات الرئيسية داخل الأقسام العلمية، واقترح أحد الرفاق ضرورة جمع تعزية تُقدم للرفيق محمد باسم الاتحاد كنوع من المساعدة ولإظهار روح التضامن بيننا وتم ذلك، غادرنا الجامعة نحو مقبرة الهواري لحضور جنائز قتلى المجزرة اتصلت بالمسماري ليبلغني بأنه متجه كذلك هناك، والتقينا بالمقبرة بحضور أعداد كبيرة من أهالي مدينة بنغازي وتم دفن أغلب القتلى ظهراً من بينهم خال رفيقنا، والأعداد الأخرى دُفنت عصراً جميع القتلى كانوا من المحتجين مقابل قتيل واحد سقط من طرف كتيبة درع ليبيا وهو “إسلام النص” الدرسي شقيق القيادي بتنظيم القاعدة “محمد النص”، انتهت الأحداث ببيانات هزيلة أصدرها المؤتمر الوطني العام وحكومته ورئاسة الأركان، لتزداد مدينة بنغازي غرقاً في بحيرات الدم دون تدخل حاسم لإنقاذها، وعند عودتنا في اليوم التالي للكلية وجدنا ورقة الاستنكار والنعي مُزالة من أغلب لوحات الإعلانات، وعرفنا لاحقاً أن من قام بهذا الفعل هم الطلبة الموالون للإسلاميين وتنظيم القاعدة، انطلقت بعد مجزرة السبت الأسود سلسلة من الهجمات استهدفت كتائب الجيش في المدينة وبعد مضي أشهر وفي شهر نوفمبر عام 2013 تحديداً اتخذت الكتائب العسكرية قراراً بإظهار قوتها أمام الكتائب والفصائل الإسلامية المسلحة، لإيقاف الهجمات التي تتعرض لها دورياتها في مفترقات المدينة ومعسكراتها، أبلغنا بهذه الخطوة مبكراً لتخرج الكتائب والوحدات العسكرية في استعراض عسكري شاركت به القوات الخاصة “الصاعقة” واللواء أول مشاة والقوات البحرية والجوية، وتخلل العرض عملية هبوط لطائرة عمودية بساحة الكيش حضرت للمكان رفقة عدد من نشطاء المدينة الذين أطلقوا قبل العرض هاشتاق “تسلم الأيادي” عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وبعد كلمات ألقاها القادة العسكريون اتجهنا نحو ساحة تيبستي ليتجمع عدد من نشطاء وأهالي المدينة مؤيدين ومباركين لهذه الخطوة التي اعتبروها رسالة من الجيش بأنه قادر على فرض قوته ليسترد من خلالها بنغازي، ولكن هذه الخطوة والعرض كانت نتائجها عكسية جعلت كتائب الجيش أكثر استهدافًا وأصبحت عمليات الاغتيال والتصفية بحق الجنود ترتفع، لينتهي شهر نوفمبر بمواجهات كانت شبيهةً بالحرب ما بين القوات الخاصة الصاعقة وفرع تنظيم القاعدة “أنصار الشريعة” بدأت المواجهة فجر يوم 25 نوفمبر بجزيرة دوران منطقة البركة وانتقلت سريعاً لأمام منزلنا بعد أن تمركزت الصاعقة بمفترق شارع سيدي عبدالجليل وأنصار الشريعة بمفترق مركز شرطة البركة المدمر بسبب التفجيرات، ولم تدم المواجهات طويلاً في منطقة البركة لتنتقل لمنطقة رأس أعبيدة في شارع مستشفى الجلاء للحوادث الذي يؤدي لطريق المطار، حيث يقع معسكر الصاعقة، فور عودة آليات الصاعقة لمعسكرها حدث تبادل لإطلاق النار مع قوة لأنصار أنصار الشريعة التي كانت تتمركز بجوار إحدى العيادات التي أسسها أمير الأنصار “محمد الزهاوي” لعلاج المواطنين بالطب البديل ولفك السحر، وفي الحقيقة كانت معملاً لتحضير المتفجرات والقنابل بعد دخول المواطنين إليها، أيّد أهالي المدينة القوات الخاصة في هذه المواجهة المصيرية لإنقاذهم من إرهاب أنصار الشريعة وتجمهر المواطنين خلف القوات الخاصة في رأس اعبيدة أثناء المواجهات، داعمين لهم ومشجعين قرار المواجهة على أمل أن تنتهي بنهاية أنصار الشريعة، خرجت صباحاً بعد أن أبلغني الرفيق محمود البرعصي بأن القيادات المدنية تخطط لزيارة القوات الخاصة “الصاعقة” ومقابلة العقيد “ونيس بوخمادة” لمعرفة تفاصيل الهجوم وأسبابه، لم أتردد واستفسرت منه عن مكان اللقاء وأبلغني لخطورة الوضع لن يكون التوجه مباشرةً إلى المعسكر سنتجمع بمقر التيار الوطني الوسطي بمنطقة الدقادوتسا، وهناك قمنا بترتيب أنفسنا لمجموعات وخرجنا بشكل متقطع من المكان باتجاه معسكر القوات الخاصة “الصاعقة”، صعدت في سيارة كان يقودها الرفيق “صالح جعوان” وبرفقتنا المرحوم “خالد البرعصي” وصلنا لمعسكر الصاعقة مع وصول باقي رفاقنا، دخلنا من البوابة الرئيسية وكان الاحتقان والغضب على وجوه الجنود والعسكريين الذين قابلناهم أثناء توجهنا لقاعة الاجتماعات ولم تمضش دقائق حتى حضر العقيد “ونيس بوخمادة” يرافقه “سالم النائلي” للمكان ودخلنا للقاعة ولم يبقَ النائلي كثيراً حتى خرج، وبدأ بوخمادة بشرح الموقف والأسباب التي أدت لاندلاع المواجهات وحقيقة الوضع في بنغازي وأوضح أن مواجهة هذه الجماعات المسلحة أمر صعب الآن، فالدولة كما وصفها لا تقف معه وأن عناصر الجماعات المسلحة ينتشرون داخل الشوارع والأحياء المأهولة بالسكان، وأكد أن هدفها هو السيطرة على معسكر الصاعقة وهذه المعلومات حصلوا عليها من خلال اعترافات عدد من المسجونين لديهم، بوخمادة كان يعلم أن الحرب ضد هذه المجاميع المسلحة تتطلب قراراً يُدعم من كافة سلطات ومؤسسات الدولة وفق خطة عسكرية تشارك في تنفيذها كافة الوحدات العسكرية، استمر الاجتماع مع بوخمادة وأكدنا له دعمنا الكامل للقوات الخاصة وأننا نقف في صف كل كتائب الجيش النظامية، وسنعلن عن تحرك مدني عاجل داعم للقوات الخاصة “الصاعقة” في المدينة، انتهى الاجتماع وقرر الرفاق عقد لقاء عاجل بمنزل الأستاذ “أحمد التهامي” الذي يقع في منطقة بوعطني بالقرب من معسكر القوات الخاصة، حضر عدد من الرفاق والقيادات المدنية رجال ونساء وتقرر الإعلان عن تحرك مدني في تلك الليلة أمام فندق تيبستي والدعوة لمظاهرة كبرى في يوم الخميس الموافق 28 نوفمبر مع استمرار الوقفات الاحتجاجية أمام الفندق، في المقابل كان لابد من موقف طلابي يساند هذه التحركات اتصلت بعدد من القيادات الطلابية بالجامعة وقررنا عقد لقاء عاجل مساء نفس اليوم وتم اللقاء ببيوت الطلبة داخل الجامعة في ضيافة اتحاد بيوت الطلبة والذي كان يترأسه الطالب “أبوبكر أمحيور” من مدينة أجدابيا، حضر أغلب رؤساء اتحادات طلبة جامعة بنغازي وتم الاتفاق أولاً على الاعلان عن تعليق الدراسة واغلاق الجامعة لحين اشعار أخر وأبلغت فوراً وكالة أنباء التضامن بهذا القرار، ثم قررنا صياغة بيان باسم الاتحادات يدعم القوات الخاصة “الصاعقة” ويطالب بضرورة حل الكتائب والفصائل المسلحة الموازية للجيش يبدأ البيان بالترحم على أرواح جنود الجيش الذين قدموا أرواحهم لأجل محاربة فرع تنظيم القاعدة “أنصار الشريعة” وهذه البداية تسببت في خلاف مع ممثلين اتحاد الكليات الطبية الذين طالبوا بضرورة الترحم على أرواح الطرفين وطالبوا أن يكون البيان محايداً، وقف ممثلو باقي الكليات ضد هذا الطلب وفي اعتراضي قلت “هذه الجماعة تابعة لتنظيم القاعدة وإرهابية ويحاربها العالم والإنسانية أجمع لا يمكن إعطاء بأي شكل من الأشكال إشارة بأننا نقف محايدين في هذه المواجهة” مع تأكيدات مماثلة قدمها الطلبة “أبوبكر محيور” و”يونس أحواس” و”عبدالسلام المغربي” من الاتحاد العام و”منير المنفي” رئيس اتحاد طلبة كلية الحقوق و”حافظ التواتي” رئيس اتحاد طلبة كلية الهندسة و”منير صهد” و”المنتصر بالله الفارسي” رئيس اتحاد كلية الاقتصاد وباقي الحاضرين، أُصدر البيان وتم تعميمه على وكالات الأنباء وأعلنت إدارة الجامعة عن تأييدها للإغلاق، وفي ختام اللقاء تقرر الإعلان عن مظاهرة طلابية في يوم 1 ديسمبر 2013 للتنديد بالأحداث الدامية التي شهدتها المدينة، وفور نشرنا للبيان الطلابي تواصل معي من تونس الرفيق “وائل نوار” رئيس الاتحاد العام لطلبة تونس مستفسراً عن البيان وطبيعة الأحداث في بنغازي والجامعة شرحت له الموقف وعن خطر تنظيم أنصار الشريعة وتمدده في بنغازي ليتخذ قراراً بإصدار بيان باسم الاتحاد العام لطلبة تونس مسانداً لنا، والذي أكد في إحدى نقاطه على “مساندة الاتحاد العام لطلبة تونس لكل التحركات المشروعة لطلاب ليبيا ضد الإرهاب، ودعمهم من أجل توحيد صفوفهم في اتحاد طلابي ديمقراطي وتقدمي”، عدنا لنقف بشكل متواصل في ساحة فندق تيبستي حتى يوم الخميس الذي انطلقت فيه مظاهرة شعبية حاشدة لدعم القوات الخاصة “الصاعقة” ورفض أنصار الشريعة وهتف المتظاهرين “قولوا لأنصار الشريعة في بنغازي نار قطيعة” و”معليش زريعة” و”نبو جيش ونبو شرطة بنغازي راهي في ورطه” و”صاعقة صاعقة صاعقة”، تحركت المظاهرة من أمام فندق تيبستي وتجولت بشارع الاستقلال “جمال عبدالناصر” لتعود أمام الفندق وتستمر حتى المساء، وفي هذه المظاهرة تحدثت المغدورة “سلوى بوقعيقيص” في المقطع المصور الشهير عن دعم الصاعقة ورفض أنصار الشريعة، وكذلك تحدث المغدور “توفيق بن سعود” وأكد أننا خرجنا اليوم لدعم الصاعقة ونرفض أي شخص يجعل من نفسه وصياً علينا دينياً وكلمات أخرى لعدد من القيادات المدنية انتشرت ولازالت تتداول حتى يومنا هذا، وأثناء ازدياد أعداد المتظاهرين أمام فندق تيبستي تمت دعوتي للخروج والحديث عن التظاهرة خلال نقل مباشر لقناة تلفزيون بنغازي “بي بي أن” تقدمت نحو المراسل “محمد بوجواري” للبدء بالحديث ولم تمضِ ثوانٍ حتى وقع انفجار لقنبلة من خلفي وثقتها الكاميرا مباشرةً تمت رمايتها من سيارة عبرت سريعاً من خلفنا لتُخلف عدداً من الإصابات الطفيفة بين المتظاهرين، رماية القنبلة كانت رسالة لبث الرعب في قلوبنا لإنهاء التظاهرة وعدم تكرار الخروج مجدداً لدعم الكتائب العسكرية، ولكن ردّت الفعل كانت عكسية ازداد عدد المتظاهرين أضعافاً، ونقلت الكاميرات تفاعل المتظاهرين الذين أكدوا عدم الرجوع ولا بد من إنهاء الإرهاب وحل الكتائب والفصائل المسلحة، لتنتهي المظاهرة فجراً، ونعلن عن اعتصام مفتوح ومتواصل أمام فندق تيبستي وفي الأول من ديسمبر خرجنا داخل حرم الجامعة في تظاهرة طلابية انطلقت من مبنى الإدارة العامة وتجولت في الكليات وانتهت بقراءة بيان يندد بالفوضى الأمنية في بنغازي.
لم يكن خيار الحرب الشاملة وارداً أمامنا وبذلت القوى المدنية جهودها في تلك السنوات لجمع قادة الفصائل والكتائب المسلحة ومحاولة إقناعهم بضرورة حل كتائبهم والانضمام فرادى للمؤسسات العسكرية والشرطية والقبول بشروط الانتساب إليها، وأن حمل السلاح ضمن فصائل وكتائب خارج المؤسسة العسكرية سيؤدي لمزيد من التصادم بينهم وبين الكتائب العسكرية التابعة للجيش والقوى المدنية الداعمة لها، ولكنهم كانوا يتحججون دائماً بشرعية سلاحهم المعترف به من رئاسة الأركان وأنه جزء من الجيش وأنهم الثوار الذين حرروا ليبيا ولا أحد يتكلم معهم وهنا لا يمكن تجاهل “يوسف المنقوش” رئيس الأركان المكلف من الإسلاميين الذي سيبقى أحد أبرز المسؤولين عن فوضى السلاح التي شهدتها مدينة بنغازي، والذي تحول ليصبح سلاحاً للإرهاب، كانوا يصرون على العبث بمصير مدينة بنغازي وأهلها وأصبحوا أدوات في يد التيارات الإسلامية المتنفذة في السلطة والتي تعول على سلاحهم في فرض نفوذها، قادة هذه الفصائل والكتائب المسلحة كانوا يشاهدون تنظيم القاعدة براياته وأهازيج عناصره أمامهم في بنغازي لم يتخذوا أي خطوة لمواجهتهم وكانوا مهادنين لهم ويتعاونوا في العديد من نشاطات تنظيم القاعدة المسلحة واجتمعوا على هدف واحد وهو محاربة الجيش ورفض أي خطوات تؤدي لقيامه، هؤلاء الذين كانوا يصفون أنفسهم بالثوار رفضوا المشاركة مع القوات الخاصة “الصاعقة” في مواجهاتها مع فرع تنظيم القاعدة “أنصار الشريعة”، ولم تتواجه بنادقهم يوماً ضد تنظيم القاعدة وكانت دائماً موجهة ضد معسكرات الوحدات العسكرية والمؤسسات الأمنية والشرطية، كان المتطرفون ينتشرون داخل هذه الكتائب والفصائل المسلحة وأصبحوا عناصر تنظيم القاعدة الأقرب لهم فكرياً وعقائدياً ويتفقون معهم في تفاصيل كثيرة، أصبح الانهيار يتواصل ببنغازي فلا يمكن الخروج ليلاً إلا للضرورة وكانت نقاط التفتيش تنتشر في أحياء وشوارع وغالبية من يقف بها هم الملثمون الذين يتحدثون مع المارة باللغة العربية الفصحى، وقد تكتشف أن الذي يتحدث من جنسية أخرى غير الليبية، في منطقتي البركة أصبح تنظيم القاعدة ينشط بكثرة فقام عناصر التنظيم بالاعتداء على مبنى سينما “الزهراء” ومصادرته ودمروا بشكل ممنهج مركز شرطة البركة من خلال تفجيرات متواصلة أدت لتدمير المركز نهائياً، وكان بعض الصبية الموالين لهم يتعرضون لي بشكل متواصل ومتكرر نتيجة الموقف الذي واجهتم به وهو رفضهم ورفض وجودهم على هذه الأرض قاموا بخط بعض الشعارات على جدران مدرسة طارق بن زياد بقرب المنزل منها شعار “نحن مع القاعدة ولسنا مع القاعدين” قمت بشطبها بالطلاء ونشرت على صفحتي بموقع التواصل “فيسبوك” بأن من خط هذه الشعارات عليه التوقف، وكرروا نفس الأمر وقاموا بوضع صورة كبيرة لأمير تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” وتمت إزالتها من جديد، لتستمر المضايقات من هؤلاء الصبية، الأمر الذي جعلني أتوجه لأسرة أحدهم وأبلغ خاله بأن ابن شقيقته يقوم بتكفيرنا وتهديدنا ولا يراعى الجيرة والعلاقة الاجتماعية التي بيننا كسكان منطقة واحدة، وقال لي “أنا لست مسؤولاً عنه”، توجهت بغضب لمقر أنصار الشريعة بمنطقة البركة وكان أول دخول لمقرهم أوقفت السيارة أمام البوابة ليخرج لي أحد عناصرهم قلت له لديّ شكوى أريد تقديمها لديكم فتحوا لي البوابة ودخلت بسيارتي لداخل المقر الذي يقع داخل كتيبة الفضيل أبوعمر سابقاً في الجزء المحاذي للعمارات السكنية “الحميضة”، استقبلني عنصر مختص في استقبال شكاوى الناس وأخذني لمكتب يقع أسفل الأرض نزلت معه ووضع الورق أمامه وقال لي تفضل، خاطبته مباشرةً عندكم عنصر من عناصركم يقوم باستمرار بتهديدي واسمه فلان وأنا أتيت إلى هنا لعدم وجود أمن ولا شرطة عشان نقدم بلاغ فيه، لذلك أنتم مسؤولون عليه وعلى أي خطر يأتيني منه، رد بأن فلان ليس معنا ولا يوجد عناصر لدينا تمارس هذا السلوك فقلت له لا معكم ودائماً في سياراتكم ويرفع في شعاراتكم ويتردد على مقراتكم ويتحدث في المنطقة باسمكم، حاول معرفة طبيعة نشاطي فأبلغته بأنني ناشط وأنشط ضمن كتلة مدنية كبيرة بالمدينة ضد التطرف وتدعم الجيش والشرطة، وأنتم كأنصار شريعة إذاً أمثال فلان معكم فإنكم خطر علينا، ولكي أبتعد عن أي خطر قد يقوم به اتجاهي قمت بتسمية له عدد من القادة في أنصار الشريعة الذين سبق أن قاموا بتهديدي، وقلت له هؤلاء أقاربي ولكنهم عندما تكلموا معي تكلموا بلطف وبشكل أدبي، ولكن هذا العنصر وصل به الأمر بأن يتعرض لي وأنا أقود في سيارتي بأحد الشوارع، انتهت الجلسة وأخذ رقم هاتفي وأبلغني بأنه سيتصل بي بعد التحري ومعرفة هذه العنصر مع تكريره بأنه لا يتبعهم، وخرجت من تحت الأرض بسلامة والمشهد داخل المقر كان مرعباً جداً جميعهم يحملون بنادق الكلاشنكوف بهيئتهم وملابسهم الأفغانية المخيفة الممزقة والمتسخة ولحاهم وطريقة نظراتهم مخيفة جداً، غادرت البوابة ومنذ ذلك اليوم لم يتصل بي منهم أحد ولم أعد ألاحظ هذا العنصر ينشط كثيراً بالمنطقة، كانت أنصار الشريعة تحرص على استمرار الدعاية العاطفية بين المواطنين أثناء التأسيس والانتشار وأن جانبها الإرهابي من المبكر إظهاره للناس في هذه المرحلة، لذلك يجب عليهم ضبط وتهذيب عناصرهم بأن يكونوا في الظاهر مسالمين ومُحبين للناس وفاعلين للخير وفي الخفاء يمكنهم قتل من يشأوون ووضع العبوات الناسفة واغتيال من يرونه يخالفهم .
استهدفت في السادس من فبراير عام 2014 لأخرج بعد أربعة أيام لخارج البلاد إلى العاصمة عمان – الأردن في حالة صحية حرجة تلقيت العلاج الأساسي، ثم تقرر نقلي من عمان إلى باريس في أواخر شهر أبريل نُقلت عبر الإسعاف لمطار عمان ليتم وضعي داخل طائرة مدنية للخطوط الملكية الأردنية هبطت بمطار شارلي ديغول بعد رحلة استمرت لأربع ساعات تقريباً، ليتم نقلي للمستشفى الأمريكي باريس الذي مكثت به ولم أخرج منه إلا بعد شهور، في مايو كانت تأتيني اتصالات من الرفاق ببنغازي بأن المواجهة العسكرية أصبحت محتمة وبنغازي بعد العصيان المدني الذي أعلن في أوائل شهر أبريل أصبحت المجاميع المسلحة متحدة وتواجه بشكل جماعي أي خطوة مدنية، مطالبة بإنهاء إرهاب تنظيم القاعدة، ليتم إبلاغي بأن اللواء آنذاك خليفة حفتر يجهز لإعلان عمل مسلح سيستهدف أنصار الشريعة والكتائب المناصرة لها، لم أُعلق على الأمر وأصبحت الأحداث تتسارع وكانت الرؤية ضبابية بعض الشيء خصوصاً بعد ما حدث في طرابلس وتبعيات الإعلان الأول الذي ألقاه اللواء خليفة حفتر في فبراير، كانت مدينة بنغازي وشبابها مستعدين لهذه المعركة، وكان المطلوب فقط إعلان عسكري لانطلاقها، أعلن اللواء خليفة عملية الكرامة، وانضم العقيد “ونيس بوخمادة” رفقة قيادات القوات الخاصة “الصاعقة” للعملية من خلال بيان تمت قراءته داخل معسكر القوات الخاصة، حلت الطمأنينة في قلوب الجميع وأصبحت معركة استرداد وطن، بدأت العمليات العسكرية وفشلت كافة المحاولات التي كانت تهدف لتحييد بعض الكتائب والفصائل المسلحة عن المعركة، وأعلن أغلب قيادات هذه المجاميع على الوقوف ضد العسكريين الذين أعلنوا عملية الكرامة، الإسلاميون مارسوا التضليل والتحريض وخلقوا خطاباً معادياً لعملية الكرامة لمعرفتهم المسبقة بأن الفصائل والكتائب المسلحة مرتبطة ببعضها البعض، وأن الحرب ضد أنصار الشريعة تعني القضاء عليها جميعاً، دار الافتاء بقيادة المفتي الصادق الغرياني نطقت بعد صمت طويل اتجاه نشاط تنظيم القاعدة والإرهاب، لتفتي بضرورة قتال اللواء حفتر والعسكريين الذين معه وتتجاهل أنصار الشريعة وإرهابها وسلطة المؤتمر الوطني العام، قررت دعم هذه المجاميع بعد تجاهل طويل لدعم الكتائب العسكرية تابعة للجيش، والحكومة أصدرت قرارها بضرورة القبض على اللواء حفتر في الوقت الذي تجاهلت فيه اعتقال قيادات القاعدة والمقاتلين الأجانب الذين كانوا ينتشرون في شوارع بنغازي، بدأ الخيار الصعب واشتعلت المعركة واصطفت كل الكتائب والفصائل المسلحة في صف واحد ليظهروا حقيقة التحالف الذي جمعهم لسنوات في الخفاء واتحدت كتائب “درع ليبيا 1 وسرايا راف الله السحاتي والسابع عشر من فبراير وأبوعبيدة بن جراح والمهاجرون أنصار الشريعة”، تحت جسم وكيان مسلح واحد أطلقوا عليه اسم “مجلس شورى ثوار بنغازي” وبايعوا “محمد الزهاوي” أمير أنصار الشريعة ليصبح قائداً لهذا المجلس، أصبحت الرؤية واضحة أمام الجميع بأن هذه الفصائل والكتائب لا اختلاف بينها، والعديد من عناصر هذه المجاميع انسحبوا ورفضوا حمل السلاح لصالح مجلس شورى بنغازي وآخرين اتخذوا قراراً في بداية المواجهات بعدما اكتشفوا حقيقة المنهج العقائدي المتطرف الذي يحمله قياداتهم بعد خداع مارسوه عليهم، بأنهم قادة وثوار يدافعون عن الديمقراطية وثورة فبراير، أعداد هائلة استمرت في القتال ورفعت البنادق حتى قُتلوا في معركة خاسرة وفي صف الإرهاب وألحقوا الضرر بأسرهم التي أصبحت عرضة للتهجير والانتقام .
محاربة الإرهاب لم يكن أمراً عابراً وسهلاً، وفي الحرب يرتفع صوت الانتقام ويدخل عامل الاستغلال ويظلم الناس ويستهدف الأبرياء وتُهجّر الأسر وتدمر المدن وهذا كله حدث في هذه الحرب، فكان الانتقام سيد الموقف حُرقت البيوت وانطلقت الاعتداءات على محال وأرزاق المواطنين الذين كانوا يقفون في صف مقاتلين “مجلس ثوار شورى بنغازي”، ليدخل العامل القبلي والجهوي الذي كاد يحول هذه المعركة لعرقية لولا أن العدو كان واضحاً، تُرك الناس في حالة تخبط لتشتعل النار التي لازالت بنغازي تنفض في رمادها حتى يومنا هذا، استمرت الحرب على الإرهاب لأربع سنوات ليعلن المشير “خليفة حفتر” تحرير مدينة بنغازي تحريراً غير منقوص في شهر يوليو 2017 ومن بعده أعلن العقيد “ونيس بوخمادة” تحرير منطقة سيدي أخريبيش في شهر ديسمبر من نفس العام، بعد ثلاث سنوات من إعلان انطلاق عملية الكرامة، لتخلّف هذه الحرب دماراً هائلاً في واجهة المدينة العمرانية وخسائر بالآلاف من أرواح شبابها وانقساماً اجتماعياً وتهجيراً ونزوحاً لسكان المدينة، كلها كانت ضريبة الخلاص من الإرهاب الذي ما أن دخل لمكان إلا وخرج منه بهذه الخسائر.
رجعت لمدينة بنغازي في شهر ديسمبر عام 2015 بعد غياب لعامين قادماً من باريس عن طريق عمان، هبطت الطائرة بمطار الأبرق الذي يبعد عن مدينة بنغازي مسافة 300 كيلو متر، وجدت إخوتي وأصدقائي في استقبالي يرافقهم جنود من القوات الخاصة “الصاعقة” الذين أتوا لتأمين عودتي لبنغازي وهم الذين أمّنوا سابقاً عملية مغادرتي من مركز بنغازي الطبي إلى قاعدة بنينا الجوية متجهاً لعمان، عبرنا من بوابة برسس التي استهدفت في أوقات متعددة من قبل الجماعات الإرهابية من خلال السيارات المفخخة والانتحاريين، وصلنا لمدينة بنغازي في الصباح الباكر ظهرت من يميني بعيداً منطقة الصابري وآثار الدمار في مبانيها المرتفعة دخلنا وفي كل مكان نعبر منه أتذكر كيف كانت تقف دوريات أنصار الشريعة والمجاميع المسلحة المتحالفة معها والرعب الذي كانت تعيشه مدينة بنغازي، وصلنا لمنطقة البركة ونزلت للمنزل وكان يوم وصولي في صباح يوم المولد النبوي فالوالدة ومن كان برفقتها من الأقارب جهزوا العصيدة تناولتها في حضور الأصدقاء، ولم أخرج من المنزل لأسبوعين متواصلين نتيجة للزيارات المتواصلة من الأصدقاء والجيران والأقارب والمحبين والمتعاطفين، أبلغني في أحد الأيام في أواخر شهر يناير 2016 أحد الرفاق أن القائد العام للجيش أعلن عن إقامة ملتقى لأعيان القبائل والنشطاء والشخصيات السياسية الفاعلة وأن هناك دعوة لنا ولك بالحضور قلت له موافق سأحضر معاكم، اتفقنا على الموعد وذهبنا إلى مدينة المرج حيث مقر قيادة الجيش بالمطار الزراعي، دخلنا للمقر وكانت هناك حالة من الازدحام تم تأمين عملية دخول خاصة بنا نظراً لحالتي الصحية، وصلنا للخيمة التي حدث بها اللقاء وجلسنا وكان الهدف من اللقاء هو إيضاح موقف القيادة العسكرية من اتفاق الصخيرات وكذلك لاستيعاب الانشقاق الذي أعلن عنه “محمد الحجازي” الناطق باسم العملية، جلست والانطباع العام كان سيئاً للغاية أناس تهتف وآخرون يركضون بين الكراسي وحالة لا تُبشر بخير، أخذنا جانباً بعيداً وجلسنا به وأكدنا للذي يريد التحدث باسمنا بأننا لن نقبل باتفاق الصخيرات تحت أي ظرف، وهذا ما قاله الذي تحدث باسم المجموعة في كلمته إذ قال “حتى إذا وافقت القيادة العامة فنحن لن نوافق كقوى مدنية”، وقفنا للذهاب لإلقاء السلام على الفريق خليفة حفتر وسط ترحيب من منسقه الاجتماعي وبعض قيادات عملية الكرامة قام برد السلام والاطمئنان على وضعي صحي وأي طلبات قد توفرها قيادة الجيش فرديت عليه “أتمنى لكم ولنا النصر وإنهاء الإرهاب”، ليقف بعدها الفريق حفتر ليتحدث في العديد من القضايا وعن بعض المراحل التاريخية في كلمة استمرت لأربعين دقيقة، وخرجنا بعد أن تناولنا وجبة الغداء وتصادف خروجنا بتواجد ابنه صدام خليفة الذي لم يكن حينها يحمل أي رتبة عسكرية وكان شديد التواضع وقليل الكلام ولا تظهر عليه أي من مظاهر التسلط أو النفوذ تحدث معنا بشكل عام عن الأوضاع وأخذنا صورة جماعية بكاميرا الفريق الإعلامي العسكري وغادرنا المكان ولم نكن ثقلاء كنا نعتقد بأننا نتعامل مع مؤسسة دولة رسمية وليس حزب سياسي أو منظمة أهلية، عدنا لبنغازي وفي عقلي العديد من التساؤلات هل سيحكم الجيش هل يوجد مشروع آخر للجيش غير إنهاء والقضاء على الإرهاب، كانت الإجابات تقف أمامي وفي نفس الوقت تقف أمامي مشاهد المعركة التي كانت على أشدها في العديد من المحاور والتضحيات الكبيرة، التي يقدمها شباب بنغازي وجنود الجيش في سبيل إنهاء والقضاء على الإرهاب، سألتُ نفسي من جديد هل الوقت مناسب لإبداء الرأي الناقد في ظل صراع سياسي يحاول خلق انقسام بين القوى المدنية والسياسية لصالح تمرير وفرض اتفاق الصخيرات الذي رفضناه كونه أعاد من لا شرعية له للمشهد الذي تورط في دعم وتمكين الإرهاب الذي نحاربه، سألت نفسي كيف يمكننا الحفاظ على التضحيات واستثمارها في بناء مؤسسة عسكرية حقيقية ولاءها للدستور والشعب نظامية ومنضبطة، لا تنحاز للقبيلة أو للفرد أو للعقيدة انحيازها يكون للأرض والتراب الذي فوقها، لم أجد إجابة، فالأوضاع كانت سيئة جداً ومحاصرون من كل الاتجاهات سرايا إرهابية مسلحة تقوم بالهجوم على الموانئ والآبار النفطية محاولة التقدم لفك الحصار على المقاتلين الإرهابيين في منطقة قنفودة، الذي خرج مطالباً بضرورة نجدتهم أمير تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، وحصار اقتصادي وسلطات تشريعية وتنفيذية فاسدة لا يمكن في هذه الظروف إلا الاستمرار في دعم المقاتلين الذي يقارعون ببسالة وصلابة الإرهاب في محاور بنغازي، هؤلاء البسطاء الذين ضحوا بمستقبلهم لأجل مدينتهم والدفاع عن أهلهم ليدخلوا في معركة مع أشرس تحالف للجماعات الإرهابية، جمع تنظيمي داعش والقاعدة الذي تمت محاربته في سوريا بتحالف دولي وفي العراق بتحالف مجتمعي ودولي أما في بنغازي فتمت محاربته عبر هؤلاء الذين تم التخلي عنهم في هذه المعركة محلياً ودولياً، القيادة العسكرية صمدت بفضل التضحيات وإيمان أهالي المدينة بشرعية هذه المعركة، على أمل تنتهي بواقع ومستقبل أفضل، ولكن ما حدث كان العكس بالمقاتلين الذين عادوا لمنازلهم لم يجدوا من يحتويهم وأصبح سلاح العديد منهم سلاحاً معرقلاً لقيام الدولة، واتخذت القيادة العسكرية الانتصار على الإرهاب شعاراً لتحقيق أهداف تخدمها، ومن لم يرفع سلاحه أصبح قائداً يصدر أوامره التي أصبحت تستهدف حتى النقاد والرافضين للهيمنة على الجيش الذي تأسس على حساب تضحية تاريخية كلفت المدينة الدمار والموت والألغام والمتفجرات، وبعد الحرب على الإرهاب تمكنا من إعلان الانتصار عليه ولكننا اكتشفنا بأننا لم نحاربه، وبدل القاعدة تكونت مجموعات مسلحة عقائدية تمارس التكفير والتطرف مستندة على جهد مسلح قامت به في هذه الحرب، حالة من الخذلان والإحباط عاشتها المدينة وأهلها لا إعمار ولا بناء ولا تعويض ولا جبر لضرر صفقات سياسية وتنازلات رخيصة على حساب جرحها الكبير، لا ثقافة ولا حراك مدني تقدمي ينهض بالفكر ويقدم مشروعاً مستقبلياً يعبر بالمدينة والجيل الناشئ إلى الاستقرار والرخاء، نهب وسرقة للأموال على حساب هذه المعركة وازداد آخرون نفوذاً وسلطة لم يكونوا يوماً أصحاب مواقف مبكرة على حساب الدماء والتضحيات، وضاعت البوصلة من جديد ونحن في منتصف الطريق نحو الحرية، على أمل في صحوة جديدة تعيد الأمور لنصابها وفي نضال وطني يطلق صوته ويتحد لأجل المستقبل.
لا بد من العودة للأساس لا بد من التنازل واحترام التضحيات لا بد من الرخاء وفتح الطريق أمام الحرية والمطالبات المدنية التي ترسم من جديد خطة السير نحو طريق الحرية ببوصلة الشهيد عبدالسلام المسماري، في ختام هذا الجزء في اغتيال على طريق الحرية.. الحرب على الإرهاب الرحمة والسلام لأرواح الرفاق المدنيين الذين قُتلوا غدراً ” مفتاح بوزيد” مايو 2014 ، “سلوى بوقعقيص” يونيو 2014 ، “توفيق بن سعود” و”سامي الكوافي” سبتمبر 2014 ، “خليفة المغربي” يوليو 2014 ، “أمجد التاورغي” يناير 2016 وللذين فارقوا الحياة وهم يناضلون “جاد المولي العبيدي” نوفمبر 2020 ، “خالد البرعصي” مارس 2015 ، ولأرواح رفاقي الذين أسسوا وناضلوا معنا باتحاد طلبة كلية العلوم – جامعة بنغازي وكانوا صادقين في حبهم لهذه الأرض حتى حملوا البنادق للدفاع عنها وقدموا أرواحهم في سبيل تخليصها من الإرهاب “مصطفى رافع المصراتي” أبريل 2016، “محمد علي الشيخي” أغسطس 2016 في “هجوم نفذه انتحاري ببوابة القوارشة وكان أحد فرق الإسعاف”، “حسام مفتاح المحمودي” أبريل 2016، “صلاح محمد الدرسي” ديسمبر 2014، ولروح البطل الرفيق عضو اتحاد طلبة كلية الحقوق “آدم المقرحي” نوفمبر 2014، ولروح البطل الرفيق عضو اتحاد طلبة كلية الآداب “محمود امبية الزاوي” فبراير 2016، ولأرواح قيادات الجيش الليبي الذين فقدناهم في هذه الحرب سواء أثناء القتال أو بعده .
أرض ليبيا تستحق التضحيات وبعد التعب والشقاء سيأتي المستقبل القريب يحمل الرخاء والهناء، لا بد من الحرية وإن طالت الطريق، لا بد من ليبيا من وإن طال النضال.
الحرية شجرة لا يتفيأ ظلالها، إلا من غرسها بيده وسقاها بدمه” بشير السعداوي ..
“اغتيال على طريق الحرية… من بنغازي إلى برلين .. 7”