“اغتيال على طريق الحرية .. الانتفاضة الأولى.. 2”
عبد الله الغرياني
في يوم الجمعة الموافق 17 فبراير 2006 ومن ضريح شيخ الشهداء عمر المختار خرج جمع من شباب المدينة في مظاهرة احتجاجية شعارها نصرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتوجه نحو شارع عمر بن عاص وتوقف أمام مقر القنصلية الإيطالية للتنديد بنوايا وزير الإصلاح المؤسساتي الإيطالي “روبيرتو كالديرولي” لارتداء قميص يحمل الرسوم مسيئة للرسول، واتخذ الجمع المحتج طابع الهجوم مباشرةً واستهداف مبنى القنصلية الواقع بشارع عمر بن عاص وحاول عدد من المحتجين الصعود إلى أعلى مبنى القنصلية لإنزال العلم الإيطالي، الأمر الذي جعل القوات الأمنية المكلفة بحماية المبنى ترافقها وحدات مكافحة الشغب التدخل بشكل عنيف وأطلقوا الرصاص المطاطي على المحتجين الذين حاولوا تسلق مبنى القنصلية لإنزال العلم الايطالي محاولين إيقافهم حتى تمكن الطفل (عبدالرحمن الأرناؤوطي) من الصعود لسطح المبني لإنزال العلم الايطالي و أطلقت عليه رصاصة مطاطية أسقطته قتيلاً، وفور وفاة الطفل عبدالرحمن وعدد من المحتجين الآخرين، انقسمت الاحتجاجات إلى مسارين مسار لاقتحام القنصلية، ومسار تحول لتظاهرات لمواجهة القوة الأمنية وتصاعد مستوى المواجهة أنهى حالة الخوف ودخلت الاحتجاجات لرفض الواقع والتغيير والهتاف ضد رأس النظام معمر القذافي.
كنت أبلغ من العمر خمسة عشرة عامًا وفي تلك الجمعة كانت بنغازي شبه خاوية ومشلولة الحركة ولا حديث إلا على ما يحدث وسط المدينة ولم أكن أعلم يومها بالتظاهرات حتي تصاعد احداثها وعلمت أن الاحتجاجات هي أمتداد لمظاهرات ضد ايطاليا وما ينوى أحد وزرائها فعله، ومع تطور الاحداث وتوسع التظاهرات والتي امتدت لمنطقة راس اعبيدة التي تقع بها مستشفى الجلاء للحوادث حيث يتم إسعاف جرحى وقتلى المواجهات هناك والذي ارتفع و بلغ 11 قتيلاً وتجاوز عدد الجرحى 35 جريحًا، وتصاعدت الاحتجاجات ليلاً لإشعال النيران في مراكز الأمن والمثابات الثورية الواقعة في وسط المدينة ومنطقة راس اعبيدة وتطورت لحرق صور معمر القذافي في هذه المناطق والشطب على مقولاته المكتوبة على أسوار المدارس وامتدت لتستهدف مركز دراسات وأبحاث الكتاب الأخضر الواقع في شارع “جمال عبدالناصر” وتم اقتحام وحرق مقر القنصلية الإيطالية بشكل كامل، وأصبحت انتظر وصول التظاهرات لمنطقتي البركة التي تقع على بعد كيلو مترات من أماكن الاحتجاجات والتي طوقت من قبل قوات الأمن المتعددة بمختلف تبعيتها وكان هذا الطوق بسبب وجود عدد من المقرات الأمنية من بينها كتيبة الفضيل بوعمر، وكانت القوات الأمنية تقاد من قبل “نصر المبروك” وزير الداخلية في ذلك الوقت والتي استخدمت القوة المفرطة في تعامل مع الاحتجاجات، في الأثناء وعند خروجي المتكرر من المنزل كنت أفاجأ بوجود سيارات شرطة تتبع لمديريات أمن أتت من طرابلس والمناطق الغربية من بينها دوريات أقامت نقاط تفتيش بشارع المنزل لسيارات نوع تويوتا “كامري” تتبع لمركز شرطة عين زارة وعدد من أفراد الامن والعسكريين منتشرين في شارع يتحدثون بلكنات مختلفة عن لكنة أهل بنغازي وشارع الذي يقع في منتصفه المنزل هوا امتداد لمدخل كتيبة الفضيل بوعمر المقر الرسمي لمعمر القذافي في مدينة بنغازي، أتذكر أن والدي وقتها قال (الى صاير مهوش محرك في معمر شئ طالما متحركوش في باقي المدن في غرب وجنوب البلاد) وهذا ما حدث فعلاً أخمدت التظاهرات وتم احتواء أهالي القتلي وتسفير الجرحى للعلاج بالخارج وملاحقة وسجن من ثبت تورطه في الاحتجاجات والهجوم على مقرات الامن والمثابات الثورية وغيرها، وفي مداخلة هاتفية “لهدي بن عامر” المقربة من النظام عبر قناة الجزيرة القطرية قالت (لقد استخدمنا القوة لحماية القنصلية)لتبرير القمع الذي تصدى من خلاله النظام للتظاهرات الرافضة له، تمت إقالة “نصر المبروك” وعدد من القيادات الأمنية بسبب استخدام القوة المفرطة مع تكليفهم بمهام أخرى كنوع من احتواء الغضب واستمرار الاحتجاجات، ومن هذه الانتفاضة ترسخت بداخلي القناعة بأن الوحدة والتضامن الشعبي هوا السبيل الوحيد لتنحية القذافي ونظامه، حينها كانت البلد في حالة عزلة تامه مواقع التواصل الاجتماعي لم تتأسس بعد كي ننقل من خلالها صوتنا الرافض للنظام وإرهاب أدواته القمعية ولا وجود كذلك لإعلام وصحافة حرة تتحدث باسم الشعب، قمعت التظاهرات ولم تُقمع أرادة التغيير بداخلنا أحيينا الذكرى الاولي للانتفاضة في صمت وتابعت الجهود التي قامت بها المعارضة الليبية في الخارج ومواكبتها للأحداث ونقلها للعالم والحديث عنها في الاعلام الخارجي و وقفاتهم لأحياء ذكري الانتفاضة وصدع عبدالقادر بوهدمة بقصيدة “اطري فبراير جاب خبرها .. نار كبرها ولعت من ضيق خواطرها” وعاشت الانتفاضة الأولى في قلوبنا حتى أتي موعد الخلاص، وفي شهر أغسطس عام 2007 بعد عام من الانتفاضة وجهت الرابطة الوطنية للشباب احدى ابرز المنظمات الشبابية الموالية لسيف الإسلام القذافي دعوة لإقامة حفل فني كبير ضمن الملتقي الثاني لشباب الليبي سوف يلقي في بدايته زعيم الاصلاح ومشروع ليبيا الغد سيف الإسلام القذافي خطاب لشباب بنغازي في العام الثاني لسلسلة الملتقيات الشبابية التي حُدد لها يوم 20 اغسطس من كل عام موعداً لاقامتها، علمت مثل أغلب الشباب في المدينة بهذا الحفل ولقرب موقع الحفل من منزلي والذي اقيم بساحة الكيش الواقعة بجوار مقر كتيبة الفضيل حيث إقامة القذافي وأبنائه الرسمية في بنغازي، قررت حضور الحفل الذي من فقرات موسيقية متنوعة، ستكون مقدمة الحفل اللبنانية (رزان المغربي) ومن ضمن الفنانين الذي سوف يحييون الحفل الايرلندي (بوب غليدوف) وعروض لإحدى فرق السرك الروسية، أتي يوم الحفل وطوقت المنقطة كالمعتاد بالكامل لبعد كيلومترات وتضمن الحفل مبادرة من سيف القذافي لعقد قرآن لعدد من شباب وشابات بالمدينة، أصبحت جموع الشباب تتوافد للمكان في وقت مبكر وبعد غروب الشمس قررت رفقة أصدقائي من سكان المنقطة وعدد من إخوتي الانطلاق للساحة وقال لي والدي الذي كان يجلس أمام المنزل (هذا كذاب كيف بوه احضروا الحفلة و وروحوا بدري) وكأنه يقول لنا لا تتأثروا بالذي تسمعوه من قذافي الابن فهوا وبوه شكل ومضمون واحد، وفي الحقيقة كان في داخلي رغبة لسماع ما الذي سيقوله سيف الإسلام القذافي لنا ولشباب رغم اننا ذهابنا لهدف وغاية اخري، توجهنا نحو الساحة وطوال الممرات المؤدية للساحة نتعرض لرجال الامن ومعهم عساكر مشهرين اسلحتهم في وجوهنا منهم من بنغازي وأخرين من مناطق أخرى تم تكليفهم لتأمين الحفل عبرنا هذه البوابات المتعددة ودخلنا للساحة وفي اخر نقطة تفتيش وجدنا أمامنا حالة الفوضى وتزاحم وتدافع لعبور هذه النقطة التي كان افراد الامن بها يقومون بضرب وسب المحتشدين لتنظيمهم، وتمكنا من دخول الساحة بعد تفتيش شخصي وكانت شبه ممتلئة والهتافات وأصوات المكبرات والأغاني الممجدة للعقيد القذافي هي المسيطرة في المكان، ومضت دقائق حتي بدـ “عبدالهادي الحويج” بالترحيب بسيف القذافي مع مقدمة لتقديس القائد وابنه وعند انتهائه دخل سيف الإسلام القذافي للمسرح و وجه التحية مع تفاعل الجمهور الذين كانوا غالبيتهم من الشباب المطحونين و الكادحين الطامحين في الحياة الكريمة التي تصون كرامتهم وتنقذهم من حالة الفقر والبطالة وتفتح أمامهم افاق للابداع والعطاء، بدء سيف القذافي حديثه واستمر تقريباً لساعة تناول من خلاله العديد من الملفات استمعت لاجزاء منها وانشغلت في جزئيته الاخري مع حالة الشغب التي بدات بين الجمهور تحديداً بين الجمهور الرياضي لناديين الاهلي والنصر وكان التلاسن بينهم شديد في منتصف الكلمة، ورغم ذلك شدتني بعض الجزيئات والقضايا التي تناولها سيف القذافي منها النظام السياسي للبلاد وإدخال الديمقراطية ويمكن تحويل نظام التصعيد الذي هو يعتبر أساس المشاركة في ديمقراطية الشعبية الذي اختلقها معمر القذافي الى التصويت المباشر عبر الصندوق وقال “هناك قبائل كبرى تسيطر على التصعيد وتشري في المناصب وقبائل اخرى مسحوقه لابد من معالجة هذا الخلل عبر التصعيد بالصندوق وتصويت السري”، وتحدث عن العلمانية ورفضها وقال “كيف نلغي كتاب الله وكيف نتعامل مع قضايا تطبيق الحدود وأن الاسلام خط لا خروج عليه”، تحدث عن ملف حقوق الانسان والقضايا التي تورطت فيها أدوات والده القمعية وقضية محمد البشتي وربط هذه القضايا بحقوق الاخرين الذي كانوا جزء من النظام وطالتهم أيادي الحركات الجهادية التي ينتمي إليها البشتي ،وأشار في كلمته “للقط السمان الذين انهكوا الخزائن الليبية ونهبوا رزق الليبيين ولابد من محاسبتهم”، كلمته لم تخلوا من الخطوط الحمراء على رأسها “القائد وثورة الفاتح وأن هناك ماء البحر يمكن لاى احد لايعجبه القائد يشرب منه فافي هذا البحر أكل الاسماك الطيارين الامريكان” وختم كلمته بتلاوته البيان الاول الذي قرائه والده في صبيحة انقلاب سبتمبر عام 1969 وانهي و ودع الجموع التي تم تقسيمها في المكان لصف اول يجمع مقاولين مشروعه الاسلاميين والاصلاحيين وللجان الثورية وصف ثاني للشخصيات نافذه في نظام والده ثم حلقات أمنية تفصل كل هؤولاء عن حشود الشباب، ومباشرةً فور انتهاء الكلمة تدافع الشباب الذين نجحوا في حل الحلقات الامنية كانت تمثل حاجز بينهم وبين المنصة لتخرج “رزان المغربي” لتقدم الحفل وترحب بالفنان الايرلندي “بوب غليدوف” بعد عرض بسيط قدمته فرقة السرك الروسية، وعند بداء عزف وغناء البوب غليدوف اتخذ الجمهور وضع الهجوم والتصادم وخرج الوجه الحقيقي لشباب بنغازي الذي خرج قبل عام في الانتفاضة الاولى، خصوصاً بعد عدم تقديم سيف القذافي إي وعود حقيقية يشعر من خلالها الشباب بأنهم في طريق التغيير والاصلاح الحقيقي، وأعتقد أن هناك عامل آخر كان حاضرًا ساهم في اشتعال التصادم تمثل في اللجان الثورية الذين أشار إليهم سيف بشكل غير مباشر في كلمته وتوعدهم بالمحاسبة الذين انهالوا على الجمهور بالضرب والذي رد عليهم برمي الكراسي على المنصة ورشق “البوب غليدوف” بقارورات المياه وتم اخلاء المسرح وصعد “صالح رجب” احد قيادات الثورية والأمنية محاولاً تهدئة الوضع ولكن التصادم أزداد وتم رمى المزيد من الفضلات على المسرح حتي اعطي “رجب” الأمر بإخلاء الساحة خوفًا من اشتعال فوضي عارمة قد تتحول إلى أحداث دامية مماثلة لأحداث الانتفاضة الأولى في عام 2006، خرجنا مسرعين من المكان بشعور الخوف فقد تكون الكاميرات سجلت ما قمنا به مع الجمهور، وأثناء تكرار “صالح رجب” امر اخلاء الساحة انهالوا علينا رجال الامن معهم عناصر اللجان الثورية بالضرب و محاصرتنا للخروج من الساحة وكانت الحالة سيئة جدًا، الجماهير قبل الخروج دمرت كل شيء في ساحة وكان الهتاف (سيف الأحلام … سيف الأحلام) مع فقدان السيطرة على الوضع سمعت ولأول مرة صوت الرصاص الحي وشاهدت بأم عيني رجال الأمن واللجان الثورية يرفعون البنادق ويقومون بالرماية في الهواء، وأثناء خروجنا من الساحة وقعت على الأرض وجرحت يدى وركضت من جديد بسرعة نحو المخرج و وصلت للمنزل بأعجوبة ودخلت و وجدت والدي بانتظاري وكان قد علم بالذي حدث أثناء جلوسه أمام المنزل القريب من موقع الاحتفال بالأحداث التى وقعت في ساحة وقال لي (هذوم فوضويين ومجرمين و الناس مش ناسيه الى داروه فيهم و ولد معمر مش حيقدر يغطى على داره بوه ) انتهت تلك الليلة وفي داخلي بأن سيف و والده اقتنعوا أن هذه المدينة ستبقي متمردة عليهم لموعد الخلاص منهم وأن الانتفاضة الأولى الذي مر عليه عام لم ولن ينساها أهل بنغازي وسوف يشعلون الانتفاضة الثانية التي لن تستطيع إخمادها اللجان ثورية أو قيادات شعبية ولا قبائل ولا أي أداة من أدوات القمع والاحتواء.
الانتفاضة الأولى؛ ساهمت في تعزيز ثباتي وثبات الجيل الذي استطاع بعد ذلك رسم خط انطلاق التغيير في فبراير عام 2011، عشنا بعد الانتفاضة الأولى على أمل الانتفاضة الثانية وكانت كل المؤشرات تؤكد أن هذا النظام لن يصل بنا إلى مرحلة يمكن رؤية مستقبلنا من خلالها، مشروع الغد فشل والتسويق الذي مارسته أدوات المشروع الإسلامية والإصلاحية كان غير مجدٍ وتصادم الابن مع منظومة الأب والابن الذي وضع خطوط حمراء أمام الذين حاولوا تقبل فكرة الإصلاح تمثلت في خط القائد معمر القذافي وخطوط أخرى كانوا ينظرون إلى أنها أسباب التأخير والانهيار والقمع والفساد، فكيف سيكون الإصلاح الذي وضع خطًا أحمر لحماية أسباب الدمار فالإصلاح أول خطواته إنهاء الدمار وأسبابه، وكنا صادقين عندما هتفنا أمام سيف القذافي في بنغازي “سيف الأحلام” فهو كان سيفًا للأحلام يسوق في أحلامه غير الحقيقية وروايات خيالية لا علاقة لها بالواقع ولا تنهي حالة الجوع والعازة والقهر الذي كان يعيشه عموم الشعب الليبي على مدار العقود الأربعة التي حكم من خلالها نظام القذافي البلد، زار معمر القذافي بعد قطيعه بنغازي وأقام بها عددً من الأنشطة بعد عام من فشل احتفالية ابنه لعام 2010 حتى انفجار الانتفاضة الثانية في السابع عشر من فبراير عام 2011 في الذكرى الخامسة للانتفاضة الأولى. وهنا أقول للحاضر والمستقبل “لا أحد يستطيع إيقاف الشمس عن الشروق والليل وإن طال ظلامه سوف يرحل، والانتفاضة الأولى مهدت لشروق شمس الخلاص في الانتفاضة الثانية التي فتحت لنا طريق السير نحو الحرية، السلام لأبطال الانتفاضة الأولى والمجد للنضال الشعبي والخلود لأرواح الضحايا والشهداء”.
يتابع .. “اغتيال على طريق الحرية .. الثورة .. 3”