استحالة
جومبا لاهيري
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
حين قرأت مقابلة مع الروائي كارلوس فوينتس في أحد أعداد “نوفي آرغيومينتو” وجدت الآتي: “إنه لفي غاية الفائدة معرفة أنه ثمة قمم لا يمكن بلوغها”.
كان فوينتس يشير إلى الروائع الأدبية الشاهقة. الأعمال العبقرية مثل “دون خيخوتي”، التي تظل عصية على البلوغ. أعتقد أن هذه القمم تنطوي على دور مزدوج وجوهري بالنسبة إلى الكُتاب: فهي تجعلنا نستهدف الكمال وتذكرنا بحابتواضعنا.
وككاتبة، في أية لغة، عليَّ مراعاة حضور الكتاب العظماء. عليَّ قبول طبيعة إسهاماتي مقابل إسهاماتهم. على الرغم من إدراكي أنني لن أكتب أبدا عملا مثل سرفانتس، أو مثل دانتي، أو شكسبير، ومع ذلك فأنا أكتب. عليَ التعاطي مع القلق الذي تحركه تلك القمم. وإلا فلن أجرؤ على الكتابة.
وبما أنني الآن أكتب بالإيطالية، فإن ملاحظة فوينتس تبدو أكثر صميمية. عليَّ القبول باستحالة بلوغ القمم التي ألهمتني، ولكن، في نفس الوقت، تدفعني إلى الزاوية. الآن القمة ليست عمل كاتب أكثر ذكاء مني، ولكن، بالأحرى، قلب اللغة نفسها.
رغم بأنني لن أكون آمنة داخل ذلك القلب، فإنني أحاول، عبر الكتابة، الوصول إليه.
أتساءل عمَّ إذا كنت أمضي عكس التيار. أنا أعيش في منطقة يبدو فيها كل شيء تقريبا ممكنا، حيث لا يقبل فيها أي أحد بأية حدود. يمكننا إرسال رسالة في لحظة، يمكننا الانتقال من مكان في طرف العالم إلى الطرف الآخر خلال يوم. يمكننا أن نرى بوضوح شخصا ليس بجانبنا. فبفضل التكنولوجيا زال الانتظار وزالت المسافة. لهذا يمكننا القول بثقة أن العالم بات أصغر مما كان عليه. نحن دائما متصلون، متاحون. التكنولوجيا تدحض المساخة، اليوم أكثر من أي وقت.
ومع ذلك فإن مشروعي الإيطالي هذا يجعلني أدرك بحدة المسافات الهائلة بين اللغات. لغة أجنبية يمكن أن تدل على انفصال كامل. يمكنها أن تمثل، حتى اليوم، عنف جهلنا. كي تكتب بلغة جديدة، للتوغل في قلبها، ما من تكنولوجيا تساعدك. لا تستطيع تسريع العملية، لا يمكنك اختزالها. الخطى بطيئة، مترددة، ما من طريق مختصرة. كلما ازداد فهمي للغة وجدتها أكثر تشوشا. كلما اقتربت منها ابتعدت. وحتى اليوم فإن الانفصال بيني وبين اللغة الإيطالية ظل عصيا على التخطي. لقد أخذ مني نصف عمري كي أتقدم بالكاد بضع خطوات. فقط كي أصل إلى هذا المدى.
بهذا المعنى فإن مجاز البحيرة الصغيرة* التي رغبت في عبورها، والتي ابتدأت بها هذه السلسلة من التأملات، هو مجاز خاطيء. لأن اللغة ليست بحيرة صغيرة، وإنما هي محيط. عنصر غامض هائل، قوة طبيعية عليَّ الانحناء أمامها.
ففي اللغة الإيطالية يعوزني المنظر الكامل. تعوزني المسافة التي تعينني. لديَّ فقط المسافة التي تعيقني.
من المستحيل رؤية مجمل المنظر. أعتمد على مسارب محددة، طرق معينة لشق سبيلي. الدروب التي أثق بها والتي من المحتمل أن أعتمد عليها كثيرة جدا. أتعرف إلى كلمات محددة، أبنية معينة، كما لو كانت أشجارا مألوفة خلال تمش يومي. ولكن، في النهاية، حين أكتب أكون في خندق، أكتب على الهوامش، مثلما عشت دوما على هامش البلدان، والثقافات. منطقة محيطية حيث من المستحيل بالنسبة إليَّ الإحساس بالتجذر، ولكن حيث أكون مرتاحة. المنطقة الوحيدة التي أعتقد أنني، على نحو ما، أنتمي إليها. يمكنني الطواف حول اللغة الإيطالية، إلا أن دواخلها تهرب مني. لا أرى مساربها السرية، الطبقات الخفية، المستويات الخبيئة. الجزء المستتر.
بدارة هادريان**، في تيفولي، ثمة شبكة شوارع ضخمة، نظام ذو تأثير طاغ يوجد بكامله تحت الأرض. هذه الشبكة من الممرات كانت قد حفرت لمرور البضائع والخدم والعبيد، لفصل الإمبراطور عن الشعب. لحجب الحياة الحقيقية المنفلتة في الدارة، مثلما يخفي الجلد جوانب من الجسد غير جاذبة للنظر، إلا أنها تمثل وظائف أساسية فيه.
في تيفولي أعي طبيعة مشروعي لتعلم الإيطالية. مثل زوار الدارة اليوم، مثل هادريان منذ ألفي سنة تقريبا، أسير على السطح، الجزء المبذول. ولكنني أدرك، ككاتبة، أن اللغة موجودة في العظام، في النخاع. أن حياة اللغة الحقيقية، الجوهر، يوجد هناك.
عودة إلى فوينتس: أوافق، أعتقد أن إدراك الاستحالة أمر مركزي لدافع الإبداع. في وجه أي شيء يبدو لي لا يطال، يبهرني. بدون شعور بالانبهار بالأشياء، بدون اندهاش، لا يمكن للمرء إبداع أي شيء.
لو أن كل شيء كان ممكنا، فما معنى الحياة ومغزاها؟ لو كان ممكنا تجسير المسافة بيني وبين الإيطالية، كنت سأتوقف عن الكتابة بتلك اللغة.
* أنظر: https://www.218tv.net/%D8%AC%D9%88%D9%85%D8%A8%D8%A7-%D9%84%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%B1%D9%8A/
** Hadrian (67- 138) إمبراطور روماني.