احميدة: 60000 ليبي قتلوا في المعتقلات الإيطالية ما بين 1929 – 1934
خاص 218| خلود الفلاح
د. علي عبد اللطيف احميدة بروفيسور ليبي. يشغل منصب أستاذ كرسي للعلوم السياسية بجامعة
نيو إنجلاند الأمريكية. مهتم بالنظرية السياسية وعلم السياسة المقارن، وعلم الاجتماع التاريخي، مع التركيز بوجه خاص على حركات مقاومة الاستعمار في شمال أفريقيا، خاصة في ليبيا الحديثة، من منظور الإنسان باعتباره عنصرا مؤثرا في الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية.
في هذا الحوار تحدثنا عن كتابه الصادر حديثا (الإبادة الجماعية في ليبيا… تاريخ الاحتلال المنسي) والصعاب التي واجهته في تحقيق مادة هذا الكتاب. وعن المعتقلات الإيطالية وكيف وصف هذا التاريخ الاستعماري بأنه أكبر جريمة عالمية للإبادة في العهد الإيطالي
ـ يظهر من خلال كتاباتك اهتمامك بحركات مقاومة الاستعمار في شمال أفريقيا، خاصة ليبيا، لماذا؟
ـ أنا ولدت وكبرت في أسرة مجاهدة تأثرت بالاستعمار الإيطالي بشكل مباشر، جديْ علي وأحميدة كانا مجاهدين في دور عبد الجليل سيف النصر، وأمي ولدت في المنفى بعد الجلوة وهزيمة المقاومة في معركة الهوارية ولجوء جدي علي إلى تشاد في عام 1930، وجدتي عائشة بومريز الزويية عاشت وماتت في فايا بتشاد.
تربيتُ في العائلة الليبية المجاهدة على ثقافة معادية للاستعمار، وأصبح هذا التاريخ جزءًا من ثقافتي الحياتية، ولهذا مثل غيري نشأت في جو عائلي يركز فيه الآباء والأجداد والجدات على سرديات الجهاد والمقاومة، والاقتلاع والتهجير، والموت والهجرة في المنافي داخل ليبيا وخارجها.
وهذه البيئة الداخلية الليبية هي التي أثرت في اهتمامي بتاريخ المرحلة الاستعمارية والجهاد بما فيها النفي والمعتقلات.
وعيتُ بهذا التاريخ الشعبي العائلي منذ طفولتي، ولهذا عندما درست موضوع المعتقلات وقابلت الأحياء سألوا عن أهلي وتكلموا معي برحابة صدر، شعرتُ أن ثقافتهم والتاريخ الشفوي هو نفسه وبالذات عندما عرفوا أن أهلي من الأشراف، وأنني أعرف قبائلهم وعشائرهم وجهادهم ومعتقلاتهم، بل واستمرت علاقتي بهم منذ عشرين عاما وما زالت وطيدة ومستمرة.
دعيني أعطيك لمحة على دراستي العلمية والأكاديمية؛ لأنها مرتبطة بسؤالك عن أسباب اهتمامي بهذا الموضوع، والفترة الدامية من التاريخ الليبي.
عندما جئتُ إلى الولايات المتحدة للدراسة العليا بعد الدراسة في مصر في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قررّتُ ألا أدرس في العالم العربي لقناعتي أنني لن أستفيد كثيرا، وركّزتُ على دراسة المنهج والدراسات النقدية المعاصرة، واخترتُ ثلاث تخصصات: التاريخ الإفريقي، والاجتماعي التاريخي، والأنتربولوجيا، بالإضافة إلى دراسة النظرية السياسية المعاصرة والحكومات المقارنة، ولكن من منطلق ما بعد الاستعمار، ولهذا اخترتُ موضوعا قديما، لكن دراسته من منطلق منهجي وأكاديمي واقتصادي جديد، وهو الأصول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لحركات المقاومة، وكان عنوان أطروحتي نابعا من الثقافة والتاريخ الليبي: من أجل الله، الوطن، والعشيرة: الأصول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لحركات المقاومة والتواطؤ مع الاستعمار 1830/ 1931، وصدر الكتاب مترجما إلى اللغة العربية بعنوان: (المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا) عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1995، وطبع بعدها ثلاث طبعات، كان آخرها عام 2009 .
الكتاب الجديد عن المعتقلات هو الجزء الرابع من مشروعي الفكري والمعرفي في إعادة وبحث وكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي لشمال إفريقيا، ومنها ليبيا، من منظور نقدي جديد، بعبارة أخرى هذا الكتاب الجديد هو استقراء لمشروعي المنهجي الفكري في تطبيق النقد المزدوج، نقد الهيمنة والصمت الغربي الأكاديمي، وأيضا صمت الدولة الليبية عن جريمة المعتقلات، وهي أبشع جرائم الاستعمار الايطالي الفاشي في ليبيا، بل ربما من أبشع جرائم الاستعمار في القرن العشرين.
ـ كم سنة قضيتها في تحقيق مادة كتاب (الإبادة الجماعية في ليبيا… تاريخ الاحتلال المنسي)؟
بدأتُ هذه الدراسة الصعبة في العام 2000، حيث استغرق البحث والتحقيق في هذا الموضوع حوالي 20 عامًا، اكتشفتُ تحديات لم أتوقعها، من أهمها أن الدراسات الليبية ركّزت على جوانب الشعر الشعبي الوصفي، باستثناء دراسة معمقة واحدة للدكتور سالم يوسف البرغثي، عبارة عن رسالة ماجستير في التاريخ.
وهنا أريد أن أوضح أنني لم أبدأ من الصفر، بل إنني مدين لإسهامات الكثير من الباحثين والمؤرخين الليبيين الذين جمعوا الشعر الشعبي، بداية من لجنة تجميع التراث بجامعة بنغازي برئاسة الراحل الدكتور علي الساحلي، ناهيك عن الدور المحوري للمركز الليبي للدراسات والمحفوظات التاريخية “مركز الجهاد سابقًا” برئاسة الدكتور محمد الجراري في طرابلس وبنغازي، والمشروع الرائد في تجميع التاريخ الشفاهي للجهاد، ونشره في مجلدات سميت: (موسوعة روايات الجهاد)، والتي غطت مرحلة المعتقلات ولكن ليس بشكل منفصل.
أيضا أنا مدين لأصدقائي علي برهانه، وعبد الله إبراهيم، وسالم الكبتي، وعطية مخزوم، ومحمود الديك، وإسهامات يونس فنوش، والهمالي الحضيري، والرويعي قناو، ونصر الدين الجراري، غيث سالم سيف النصر، ومهدي كاجيجي، وجمعية ذاكرة المدينة في هون خاصة عبد الله زاقوب وخالد محمد بشير.
لكن هذه المادة الفنية عن الشعر والتاريخ الشفاهي تطلبت فهم المفردات والأوزان والثقافة الداخلية في شرق ووسط ليبيا، وهذا تطلب تعلم وفهم ثقافة داخل ثقافة، وكأنني رجعت لثقافة أمي وجدتي، هذه بعض التحديات داخل ليبيا.
وفي إيطاليا واجهت صعوبات أخرى، منها المنع والرقابة، ونصحني مؤرخ تقدمي ايطالي أنجلو دي بوكا بعدم تضييع الوقت في إيطاليا؛ لأن الحكومة الإيطالية خاصة مسؤولي الأرشيف تلاعبوا بالوثائق والملفات، بل وأتلفوا الجزء الحرج والدموي منها، من هنا اكتشفتُ أن الموجود من الأرشيف هو وجهة نظر استعمارية، والوثائق تعبّر عن وجهة نظر الدولة، وفي هذه الحالة هم المجرمون الذين قتلوا 60000 ليبي في المعتقلات ما بين 1929 – 1934. لم أكتف بهذا، بل قررتُ الاستمرار في البحث في ثلاث قارات عن الأرشيف الإيطالي، خاصة أرشيف الجنرال دولفو غريسياني، وأيضا الأرشيف البريطاني، وأخيرا الأرشيف الأمريكي، والسبب أن القوات الأمريكية أخذت جزءً من الأرشيف الإيطالي بعد احتلال القوات الأمريكية والحلفاء لإيطاليا العام 1943، بعدها قمتُ بزيارة المتاحف والنصب التذكارية في إيطاليا، ومتحف المحرقة اليهودية في واشنطن العاصمة الأمريكية، وربما كنتُ العربي والمسلم الوحيد في ذلك اليوم من صيف العام 2008 داخل المتحف.
هذه جريمة كبيرة، ونحن الليبيون والعرب تجاهلناها، لذلك كانت الدراسة وكأنها تحقيق في جريمة، والهدف هو معرفة الحقيقة، وتقديم دراسة رصينة مبنية على الدراسة النقدية للمصادر، والربط بين ثلاث أمور هي: الأرشيف، والتاريخ الشفاهي، والدراسة الحقلية أو الميدانية لواقع المعتقلات، ناهيك عن دراسة أهم الحالات المشابهة للحالة الليبية، وبالذات ناميبيا، وإبادة الهريدو، والكونغو، والجزائر في إفريقيا، وطبعا أهم الأدبيات والنظريات عن المحرقة النازية لليهود والغجر والاشتراكيين والمثليين في أوروبا.
الدراسة ليست تقليدية، فهي أولا تحقيق تاريخي ووثائقي واجتماعي ومعرفي عن الجريمة، لكنها تختلف عن الدراسات العربية والليبية عن التاريخ، فنحن تأثرنا بالمدرسة الأكاديمية المصرية التي تركن إلى الفصل بين التخصصات الأكاديمية، وموضوع مثل المعتقلات يدرس في أقسام التاريخ وحسب، وأيضا نعتقد أن الاستعمار ينتهي بالاستقلال في حالتنا في 24ـ ديسمبرـ1951، ولكن تداعيات الاستعمار ما زالت موجودة (الحدود، والهوية، والمعمار، والاستقلال، والمواطنة والدولة الوطنية، ورؤية الذات).
ولهذا دائما ما تطرح جريمة المعتقلات كنوع من التمدن والتحضر، وضريبة التقدم الحديث، والمشكلة المعرفية الأخرى أن كثيرا من المثقفين العرب وبعض الليبيين يتحدثون عن الحداثة ونقد ما يسمى الشخصية والعقل العربي، دُون الحديث عن الاستعمار، خاصة الاستيطاني وجرائم الإبادة!
من حق القارئ أن يسأل: لماذا دراسة المعتقلات الآن؟ وما هو التاريخ المخفي أو المنسي؟ وماذا أعني بالشرّ؟ للأسف الكثير من الليبيين لا يعرفون سوى شريط عمر المختار، والعرب لا يعرفون ليبيا، ناهيك عن الصورة السطحية لليبيا في الغرب عن القبلية والتقاليد والإسلام والقذافي والإرهاب.
والاعتقاد أن الألمان قساة وقادرين على اقتراف إبادة جماعية، بينما الطليان هم شعب يحب الحياة والفن والأكل والشعر والمعمار، ولم تكن هناك مشكلة معاداة لليهودية في إيطاليا مثل ألمانيا.
على سبيل المثال: قمتُ بدراسة في شكل استبيان لآراء الشباب الليبي في 7 جامعات في الشرق والوسط والغرب والجنوب، اكتشفتُ أن الشباب الليبي لا يعرف الكثير عن هذه الجريمة، وعندما زرتُ مواقع المعتقلات في العقيلة والبريقة والمقرون وسلوق والتريه ذُهلت من الإهمال الكبير، واختفاء الملامح الأساسية للمعتقلات. هذه بكل تأكيد أكبر جريمة عالمية للإبادة في العهد الإيطالي.
ـ صحيح أن نظام سبتمبر حقق اعترافا خجولا وغامضا لجرائم الاستعمار الإيطالي، طمعا في مشاريع وتصفية لهذا الإرث غير الإنساني، لكن الاعتراف من قبل رئيس الوزراء سلفيو برلسكوني كان غامضا، ولم يلحقه تحولات مهمة طالما طالبتُ بها، بل إنني أوصيتُ أصدقائي بالتشديد عليها، أمثال الراحل محمود جبريل، والسيد عبد الرحمن شلقم، وتحديدا المطالبة بالحصول على ملفات المعتقلات المخفية وغير المسموح بالاطلاع عليها.
لنكن منصفين معمر القذافي حصل على اعتراف برغم غموضه قبل أي دولة عربية أو أفريقية باستثناء ناميبيا وكينيا، بل إن الجزائر التي مرت بحرب إبادة مثل ليبيا حتى الآن لم تستطع الحصول على اعتراف، بالإضافة إلى أنني طالبتُ بترسيم المعتقلات المهمة، وإنشاء متحف، والمطالبة بتغيير المناهج داخل وخارج ليبيا للتعريف بهذه الجريمة الجماعية.
لن أسكت عن فضح هذه الجريمة، وإعطاء الأحياء الحق في السرد، ومواجهة الامبريالية الفاشية، نحنُ لا نريد الانتقام أو الثأر، لكن نطالب بالاعتراف بالجريمة لتقديم الحقائق.
عندما زرتُ إيطاليا اكتشفتُ أن الفاشية أزالت جزءاً من النظام الشرعي السياسي والثقافي والنصب التذكارية والأسماء الاستعمارية، أمثال موسليني وغرسياني ما زال يُنظر إليهم كأبطال قوميين، كما أن الحزب الفاشي الجديد شارك في الحكم أيام برلسكوني، وما زال يُدافع عن الفاشية بما فيه تاريخها في المستعمرات.
لا أُخفي عليكِ أنني لم أقبل تدخل الناتو في انتفاضة فبراير 2011 ، وأشعرُ بالحزن لتهافت العديد من القيادات الليبية للتعاون مع الدول الأوروبية الغربية، ونحنُ نملك تاريخًا نضاليا وجهاديا، وبلادنا أغنى من العديد من الدول، وصارت بعض قياداتنا تعكس عقدة الأجنبي المستعمر مثل بعض الدول العربية الفرانكفونية، ويتعاملون مع الشباب الليبي من خلال برامج ودكاكين المجتمع المدني ومنظماته، تحت اسم تمكين المرأة، والأقليات، وصنع الهوية!
أتمنّى أن يقدِّم كتاب معلومات للأجيال الشابة عن عنصرية ووحشية الدول الاستعمارية الغربية، تحت دعاية الحداثة والتقدّم والمدنيّة والديمقراطية.
ـ ما هي برأيك أبعاد هذه الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الليبيون في الفترة من 1929ـ 1934؟
الاستعمار لم ينته كما يعتقد الكثيرون عام 1951، والهيمنة ما زالت موجودة، بل أرى أن هذه هي المشكلة الأساسية، سيطرة فكرة استعمارية دعائية أن الصراع الآن هو داخلي بين دول متقدمة وديمقراطية، وتطبيق الحداثة والبحث العلمي، ودول تقليدية ودينية وفاشلة، صحيح أننا نحتاج لما طرحته منذ عقدين للنقد المزدوج: نقد الامبريالية وهيمنتها بالذات الثقافية والأكاديمية، وأيضا فشل النخب المحلية والاستبداد والدكتاتورية والملكيات المطلقة، ولكن لا بد من مراجعة أن التاريخ الاستعماري ما زال جزءاً منّا، كما أنه جزءٌ من تاريخ أوروبا أيضا.
قلتُ هذا في أوروبا وأمريكا، نحن متداخلين معهم وهم معنا، ولا يُمكن أن نكتب تاريخ ليبيا من غير فهم تاريخ إيطاليا، والعكس صحيح.
أدعُو إلى فهم جذور وأصول تاريخ الحاضر، هذا الطرح المنهجي يتطلّب ممارسة النقد الذاتي بالنسبة للنّخب، بل حتى النظام التعليمي والجامعي.
أنا طرحتُ هذه الأسئلة من قبل، لكن كتابي الجديد يُخاطب العالم عن الحالة الليبية، كما أنه يقدّم رؤية ليبيا / عربية / إسلامية / وإفريقية عن نظريات الإبادة والحداثة، بعبارة أخرى أطرح رؤية جديدة لجذور المحرقة اليهودية في سياسة وجرائم الإبادة في ناميبيا والكونغو والجزائر وليبيا، أي: المحرقة اليهودية ليست استثناء، بل هي جزء من فكر وثقافة عنصرية إمبريالية جذورها في إفريقيا والفكر الاستعماري الذي وجد في العنصرية أيديولوجية لتبرير الهيمنة وحروب الإبادة.
ـ ما هو شكل المصالحة التي تحتاجها ليبيا الآن؟
ـ المجتمع الليبي يحتاج إلى المصالحة، وهذه المصالحة لن تحدث بغير معرفة الحقيقة، وهذا يتطلب التركيز على القواسم المشتركة والإنصاف وانتهاء الحروب.
هذا سوف يؤدي إلى إعادة فكرة وقيمة التعايش، وتقبّل شرعية الاختلاف التي هي سرّ قُوّة المجتمع الليبي طوال قرن من الزمن، وإعادة النظر في مسألة الاستقواء بالخارج على الداخل.
أعتقدُ أن التوافق بين الليبيين يتم بالتفاوض والتنازل من أجل دولة المواطنة والقانون، هذه هي البداية، وبعدها نحتاج لممارسة النقد الذاتي، وأخذ الدروس والعبر من هذه المرحلة البائسة والتقاتل الأهلي، إذا اتفقنا واعتمدنا على أنفسنا سوف يحترمنا العالم الخارجي.
معرفة ما جرى في تلك المعتقلات وإبادة حوالي 60000 مواطن ليبي هو عبرة ودرس، وجود ذاكرة خصبة وحية ضرورة.
المشكلة بصراحة ليست مشكلة الشعب، ولكن النخب البائسة في قيادة الناس وإعطاء الفرصة للأطماع الخارجية لنهب البلد وثرواته، المصالحة ليست شعارات، بل وضوح تاريخي وقانوني وثقافي، والإبادة الجماعية في المعتقلات تجمع كل الليبيين على قواسم مشتركة. هذه التيارات الساذجة والانتهازية هي التي أوصلتنا لهذا الوضع البائس الآن.
ـ هل فهمُ التاريخ يشكّل مسألة حيوية وضرورية في ظرفنا الحالي؟
ـ عنفُ التاريخ الاستعماري الإيطالي خلق تناقضات وصراعات كبيرة في المجتمع والثقافة الليبية، هناك إنجازات كبيرة في كتابة هذا التاريخ، وأهمها الإسهامات الرائدة للمركز الليبي للدراسات والمحفوظات التاريخية “مركز الجهاد سابقًا” في جمع التاريخ الشفاهي، ومع ذلك نعاني من معارك المرحلة الاستعمارية حتى اليوم، وكتابة التاريخ تعكس هذا.
لا أحد يُريد أن يتكلم عن التعاون والتواطؤ، والحقيقة أن قطاعات كثيرة تعاونت وتواطأت مع الاستعمار الإيطالي، مثل بقية الشعوب الإفريقية والعربية، والمزعج هو طريقة كتابة التاريخ، وجُلّها يركّز على التفاخر وإعلاء شأن الجهات والمناطق والقبائل والزعامات المحلية، وعدم تقبّل أي انتقاد أو مواجهة مع هذا التاريخ.
حاولتُ تجاوز هذه الألغام الثقافية والمحاذير المحلية في كتابي: المجتمع والدولة والاستعمار، وللأسف عقلية التاريخ الجهوي القبلي والمناطقي! لسنا معزولين عن العالم، وهويتنا ليست ساكنة ولا أحادية، بل متغيرة ومتشابكة، البحث العلمي في ليبيا والعالم العربي يحتاج لممارسة نقد ذاتي وإعادة تفكير.
ـ قصيدة (ما بي مرض) للشاعر رجب حامد بوحويش، هل يُمكن أن نعتبرها وثيقة تاريخية لما حدث في معتقل العقيلة؟
ـ هذه القصيدة أعطت الشعب الليبي وثيقة مضادة للعنصرية الاستعمارية. أتذكّر أن أمي الحاجة مبروكة علي السنوسي وهي تقول لنا عن مدخل القصيدة كلما قلنا إننا مرضى، ولكن هذه القصيدة العبقرية ليست الوحيدة، فهناك مئات الشعراء والشاعرات الذين تركوا لنا قصائد كتبت إبان الاعتقال، ووجدتُ فيها تعبيرا وتفاعلا ليس فقط عما حدث، بل أيضاً رؤى المعتقلين وردود أفعالهم.
لقد قضيتُ ثلاث سنوات أدرس وأتعلم كيف أفهم هذه الثقافة المحلية، ورجعتُ إلى ثقافة والدي وجدتي وأصدقائي المختصين في هذه الثقافة، أمثال الأساتذة: علي برهانه، وسالم الكبتي وعلي زيدان والمهدي كاجيجي وغيث سالم سيف النصر وآخرين، لمساعدتي في فك رموز اللغة والاستعارة والأساليب في شعرنا الشعبي الحي والغني بالإنشائية والشجاعة في مواجهة الموت والمجاعة والمرض، هذا بالنسبة لي كان اكتشافا مهمّا وإنسانيًّا.
ـ ما هي التغييرات التي طرأت على الهوية الوطنية الليبية خلال العشر سنوات الماضية؟
ـ الهوية ليست ساكنة أو ثابتة، فكل جيل يُعيد ويُنتج ويفسّر هويته وفق السياق الثقافي والمعرفي، ولهذا منهجيا أنا ضد مفهوم الشخصية القومية والقاعدية الذي ظهر في ستينيات القرن الماضي في الدراسات الأنجلوساكسونية والأمريكية، وبمرور الوقت تعرضت لنقد شديد واختفت، الآن أجدها منتشرة في بعض الدراسات والنقاشات في تونس وليبيا، بل إنني أزعم بأن فكرة النقاء العرقي والقبلية هي خرافة، وتعيد إنتاج الأنتروبولوجيا الاستعمارية في منطقة شمال إفريقيا، هي خرافة لأنها تمجّد التاريخ والحكومات، وتتقبل الفكر المركزي الغربي عن الحداثة خارج التاريخ.
التاريخ ليس جامدا، بل متغير طوال الوقت، وفكرة العقل والشخصية الوطنية والقبلية هي فكرة عنصرية، تضع المجتمعات في الثلاجة وتجمدها.
للإجابة عن سؤالك: أزعمُ أنّ أهم التغييرات في الهوية الليبية المتغيرة تأتي من النظرة للمجتمع الليبي، من خلال حيويته الداخلية، خاصة الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن التفاعل مع العالم الخارجي قبل وخلال المرحلة الاستعمارية وما بعدها، وهنا تكمنُ أهمية النظر للحداثة، ليست لفعل خارجي، بل داخلي وخارجي معا، وتشمل المرحلة الاستعمارية والهيمنة والإبادة، مثل ما حدث في جريمة المعتقلات، والاستقلال وصناعة دولة بهوية ليبية وعلم ونشيد وحدود ورموز ليبية، خاصة بعد اكتشاف النفط والاقتصاد والدولة الريعية التي غيّرت سلوك الليبيين، بالنظر للدولة كمفهوم دخيل، وأيضا مصدر للدخل السهل.
الدولة في الخيال الثقافي الليبي هي عنيفة ودخيلة ودموية، ولكن بعد الاستقلال صارت مصدرا للتبعية.
انقلاب سبتمبر 1969 الذي تحول إلى نظام شعبوي وقومي وإلى حد كبير ثوري، طبعا في البداية أسهم في الاستقلال من القواعد والهيمنة الخارجية، ولكنه انقلب إلى حكم استبدادي منع قيام طبقة وسط قوية، وأمّم الروابط والنقابات المهنية، وبالتالي عمّق مفهوم الدولة الريعية، والأخطر أنه أمّم مشاركة الجماهير، وركّز فقط على الولاء، وعبادة البطل، كما عمّق فكرة الوساطة، وإعادة البدونة، مختفيا خلف خطاب معاداة الاستعمار والشعبوية القومية، وهذا في النهاية أدى إلى المزيد من القمع، وتأزم الهوية الليبية.
بعبارة أخرى: الهوية الليبية وُلدت في خضم النّضال والجهاد ضد الاستعمار، ولكن الاقتصاد الريعي الرأسمالي والشعبوي بعد ذلك أخرج الجماهير من المشاركة الفعلية السياسية، وأدّى هذا إلى الاغتراب والتسيّب والتشكيك في هذه الأيديولوجية، وتأجّل ليس فقط بناء دولة تُعبّر عن ثقافة مؤسسات الشعب الليبي، لكن إلى ضعف الهوية الليبية. إضافة إلى تعرض الرأي العام لحرب نفسية تشكك في وجوده وتاريخه.
ما زلت على قناعة بعمق وإبداع الشعب الليبي وقدرته على تجاوز هذه المحنة. ونرى ذلك في المقاومة الخفية للحرب والتقسيم والتدخل الأجنبي الذي لم يستطيع حتى الآن فرض أجندته. وأكون أكثر تفاؤلاً لو أننا تعلمنا دروس مما حدث بعد العام 2011 ، أتمنى ممارسة النقد الذاتي لأخذ العبر والدروس وإذا حدث هذا نستطيع تجاوز هذه الحرب والتدخل الأجنبي وتنتهي معاناة شعبنا.