اتجاه ممنوع
منصور بوشناف
منذ أربعين سنة أو يزيد؛ أذكر أنني قرأت مسرحية فرنسية طريفة, لا أذكر اسم كاتبها الآن، ولن أبحث عنه على أي حال، وبإمكان من يريد معرفته أن يجده بيسر بالتأكيد, عنوان المسرحية كان “اتجاه ممنوع” وفيها يخرج الأطفال من أرحام أمهاتهم القاصرات بلحاهم الطويلة ليعيشوا طفولتهم في هيئة شيوخ عابثين لا يتوقفون عن اللعب والعبث بكل شيء، بينما يجلس آباؤهم القصّر وأمهاتهم القاصرات يفكرون ويتدارسون شؤون الحياة والموت والبعث والاقتصاد والسياسة والحرام والحلال، وفي أثناء كل ذلك لا يتوقفون عن نهر أبنائهم “الشيوخ”، مطالبين إياهم بالتوقف عن العبث بالبيت وتكسير محتوياته وإيذاء بعضهم البعض.
مسيرة البشر في تلك المسرحية العابثة تبدأ بالشيخوخة، فيولد الإنسان شيخًا في الستين لينحدر كل عام نحو الشباب والصبا والطفولة, ليعود إلى رحم الأم نطفة ليتحلل بعدها إلى بويضة وحيوان منوي، ليذوب كلاهما ويتلاشى في متاهات الرحم وظلماته نحو العدم.
تلك كوميديا فرنسية بيضاء ولدت، ولاشك، من رحم سوداوية “كافكا” و”البير كامو” , وهي وبالتأكيد “عود أبدي” نيتشوي، وقد قلبت دورته رأسًا على عقب.
القلب رأسًا على عقب احتلّ في العقل الأوروبي مكانا مهمًا وخطيرًا منذ أفلاطون وأرسطو وحتى هيجل وماركس وفرويد ويونج وهوميروس وجيمس جويس , فلقد ظلوا يقلبون الأمور رأسًا على عقب في عقول قرائهم وأتباعهم، فهم لا يثبتون على تصور واحد وثابت للحياة, بل يقلبون القناعات رأسًا على عقب دونما توقف و”دون اتهام بالتسلق أو التلون ” كما نصف هذا الفعل الأوروبي المعتاد والشائن، حسب تصوراتنا التي نفاخر بثباتها وتصلبها الصنمي خارج الزمن الدائم السيولة والجريان.
لعبة مسرحية “اتجاه ممنوع” قد لا تكون إلا حنينًا للعودة إلى رحم الأم بعد رحلة طويلة من الفطام وقد لا تكون إلا عرضًا كوميديًا للمثل الليبي القائل “أولنا صغار وعقابنا صغار” ولكنها تظل التقاطًا مختلفًا لمسيرة العقل البشري، بل وللحياة الإنسانية برمتها.
هذا العبث الفرنسي يبدو لي، الآن، عملاً تسجيليًا شديد الواقعية بمجرد إلقاء نظرة، ولو سريعة، على مشهدنا الحياتي اليومي فها هم أطفالنا الملتحون يعبثون بمحتويات بيوتنا، بل ويلعبون الكرة برؤوس أشقائهم بينما نجلس نحن، وقد فقدنا لحينا الطويلة نناقش الموت والحياة والجنة والجحيم وتكاليف الحياة التي لا تتوقف عن الارتفاع.
إن أطفالنا يخرجون إلى هذه الدنيا بلحي طويلة وثقيلة من الهموم وفقدان الأمل, يسكنهم العنف ولا يرون غيره أداةً للخلاص من مأزق الحياة الذي وجدوا أنفسهم فيه.
يبدو هذا العبث جليًا في حياتنا وحياة من حولنا, فها نحن كبار السن نصغر ونتلاشى في ماضينا، حالمين بالعودة إلى المنابع الأولى ورحم الأم المظلم والتلاشي هناك؛ هربًا من كل هذا الخراب الذي يحدثه أبناؤنا العابثون بكل شيء، حتى رؤوسنا ورؤوس أشقائهم.
“اتجاه ممنوع”، المسرحية التي عاشتها أوروبا وفرنسا عبر حروب كثيرة؛ نعيشها، الآن، بكل عبثها وعنفها, نعيش عودة باتجاه العدم حربًا وقودها الناس والحجارة.
هذا العبث، الذي نعيش؛ هو بالتأكيد ذروة مسرحية عشناها لقرون طويلة، ربما بدأت أحداثها منذ الفتنة الكبرى وحتى فتنتنا الحديثة.
ربما مخرجنا الوحيد هو إيقاف هذا العرض المرعب من أجل “اتجاه مشروع” يعيد للحياة معناهاـ ويوجّه عيوننا نحو المستقبل والأمل بدلاً من هذا الاندفاع الجنوني نحو الموت, نحو الماضي, نحو الرحم.