إلعما والعمى…
فرج عبدالسلام
مثل آخرين، كما أخمّن، أحزنني كثيرا مقتل المليشياوي الليبي الطفل، المكنى “السكّرة” وهو الذي لم يتم عامه الخامس عشر. أعرف أيضا أنّ السكرة لم يكن الأول الذي يُقصفُ عمره قبل الأوان في هذه البلاد الظالم أهلها، لكنّ المُحزن أيضا أنه لن يكون الأخير، في بلادٍ أهلها مصابون بعمى البصيرة، في تطابق مع النص القرآني البديع “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.”
ذكّرني هذا الحدث المريع بمسألة العمى في صورتين، الأولى “إلعما” وهو تعبيرُ، يقصُر استخدامه حسب علمي، على بلاد الشام، ويندرجُ المعنى في خانةِ التعجّب الشديد مِنْ فَعلٍ ما، أو الدعاءِ بالشرّ على شخصٍ ما بأن يُصاب بالعمى، وهو لعمري دعاءٌ خبيث بأن يفقد الإنسان نعمة البصر التي لا تُعوّض بثمن.
أما “العمى” بمعنى فقد البصرِ، فهو عنوانُ روايةٍ شهيرة، للكاتب البرتغالي المتميز وصاحب نوبل، هوزيه ساراماغو، الذي عُرف بأسلوبه التهكمي الدقيق، وتحكي قصة تفشي وباءِ العمى لأسباب غير معلومة، حيث يصيب تقريباً كل السكان في مدينةٍ مجهولةِ الاسم، وما يترتب على ذلك من تفكك المجتمع بشكل سريع. وكون هذا الوباء ظهر فجأةً، وعدم معرفة سببٍ لحدوثه وطبيعة العمى، كل هذه الأمور تؤدي لإنتشار ذعرٍ واسع النطاق، يكشفُ بدوره النقاب عن هشاشةِ النظام الاجتماعي القائم، عندما تحاولُ الجهات الحكومية أن تُسيطر على الأوضاع، وتحتوي العدوى عن طريقِ اتخاذِ تدابير قمعيّةٍ وحمقاء بشكل متزايد.
نرى عبر الرواية تدني المعايير الأخلاقية في ذلك المكان بشكل مروّع خلال فترة قصيرة، حيث ينهارُ المجتمع بشكل شبه كامل. القانون والنظام، والخدمات الاجتماعية، والحكومة، والمدارس، وما إلى ذلك. فكل هذه الأمور تصبح غير ذات أهمية بسبب العمى. ومن هذا المنطلق ، يعالج ساراماغو كل تقلبات الطبيعة البشرية – الحب ، الولاء، الخوف، الشجاعة البطولة الجبن، الغيرة، العنف، السعادة خيبة الأمل – وكذلك إمكانات الكارثة في إخراج أفضل وأسوأ الناس.
بعد مقتل الطفل “السكرة” حاولتُ جاهدا منع نفسي من مقارنة مجتمع ساراماغو الذي مرّ بمحنةً قاسية أخرجت إلى السطح أسوأ ما فيه، مع مجتمعنا الليبي منذ فبراير، (وإن كان البعض يرون أن بدايات المحنة كانت منذ سبتمبر 69) حيث يبدو الجميع وقد تلبسوا شخصيات أبطال ساراماغو، لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية الآنية، ويعجزون عن رؤية الحلول المناسبة للوطن وأهله كما نرى في هذه الحرب الأهلية العبثية الدائرة. بالتالي ليس هناك بدّ من استخدام تعبيرٍ مناسبٍ يليق بمن يخرّبون وطنهم بأيديهم، وهو (إلعما) بالمعنى الذي يقصده أهل الشام.