إغفاءة الضمير
عمر أبو القاسم الككلي
ظهر اللاتسامح في العالم بعد ظهور الديانة اليهودية والديانتين التوحيديتين التاليتين لها. قبل ذلك، في ما يتعلق بما صار يسمى، بعد ظهور الديانات التوحيدية، بـ “الأديان الوثنية” كان التسامح، مع الآخر ذي الدين المختلف، هو السائد. فلم يكن معتنقوا تلك الأديان يعادون بعضهم على أساس ديني أو يتخذون من دينهم إطارا لتعبئة أتباعهم لشن حرب ضد غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، كما لم يكونوا يفرضون دينهم على الأقوام التي يهزمونها في الحروب ويبسطون سيطرتهم على أراضيها. لكن التسامح كان ينتفي مع المنشقين من داخل الجماعة ذاتها.
مايكل أنجلو ياكوبوتشي يتتبع* تارخيا ظاهرتي التسامح واللا تسامح منذ الديانات متعددة الآلهة (الوثنية) انتهاء بعصر الحداثة. وكتابه بالغ الأهمية في هذا المجال وغني بالثراء المعرفي والتبصر والعمق، أنصح القراء المهتمين بهذه الناحية بالبحث عنه وقرائته بجدية وانتباه.
لن أقوم هنا باستعراض الكتاب، وإنما سأركز على مغالطة ذات خطورة فائقة وردت على لسان مؤلفه معبرة عن بعد من أبعاد ضميره الشخصي.
يقول (ص47) أنه كان، لحسن الحظ، موجودا في الجزائر بصفته سفيرا لإيطاليا هناك “في فترة كان التطرف الإسلامي فيها مازال يبدو بعيدا” وأنه تعرف “على إرهابيتين كانتا ناشطتين إبان حرب الاستقلال، كانتا ماتزالان صغيرتين إبان هذه الفترة وكانتا فخورتين لأنه كان يطلق عليهما ‘مجاهدتين**، وعندما قابلتهما كانتا بالفعل قد أصبحتا سيدتين يا فعتين”.
ارى أنه من المستحسن التوقف هنا قليلا للتذكير بأن جبهة التحرير الوطني الجزائرية انتهجت في فترة، إلى جانب المقاومة المسلحة ضد جيش الاحتلال الفرنسي، القيام بعمليات تفجير القنابل في المطاعم والمقاهي التي يرتادها المستوطنون الفرنسيون.
نعود الآن إلى استكمال الفقرة التي كنا بصددها. يقول السيد السفير المفكر “كانتا تتحدثان بحرية عن هذه الأزمان، وكانتا تدفعان بنفس الحجج المعتادة: ‘كان للفرنسيين دبابات وطائرات ورششات آلية، كانوا يحصدون بها المدنيين. أما نحن فكان لدينا قنابل بدائية صنعت بأجهزة تفجير ميقاتية قديمة، واستخدمناها عندما وكيفما استطعنا‘”. وكانت ردة فعل السيد الباحث، بعمق، في التسامح واللاتسامح الرد عليهما معترضا بأن “العسكريين عادة لا يصيبون عن عمد دائما وفقط أهدافا مدنية بينما التكتيك الإرهابي يستهدف بالفعل الأبرياء. إن الاختيار المدروس بتفجير قنبلة في أحد بارات اللبن milkbar الممتلئة بالأطفال هو جريمة ضد البشر كبيرة الحجم لدرجة أنها تسبب وصمة لا تمحي في جبين أي قضية من أجل الحرية والاستقلال مهما كان نبلها”.
قبل أن أناقش دفع السيد المفكر، أريد الإعراب عن رأيي الشخصي، الذي لا التباس فيه، والذي يجرم قتل أطفال العدو.
الآن آتي إلى مناقشة بعض النقاط.
1) في حالة الاحتلال ليس ثمة فارق، نوعي، بين العسكري المحتل والمستوطن المدني المتمتع بحمايته. فهؤلاء المدنيون لم يأتوا إلى البلاد في زمن السلم وبشروط سلطاتها وأهلها. إذن فهم محتلون يؤيدون الاحتلال ويدعمونه وينشؤون المزارع على الأراضي التي تصادرها سلطات الاحتلال ويستثمرون عبر امتيازات ممنوحة لهم من سلطات الاحتلال على حساب أهل البلاد. فالزوجة التي تصحب زوجها المحتل المدني، والفتاة الراشدة التي تأتي مع أسرتها المحتلة، تقعان ضمن تصنيف المحتلين وتتحملان ما يترتب على ذلك من تبعات. إضافة إلى أن هؤلاء “المدنيين” كونوا عصابات إرهابية للانتقام من المواطنين العزل وترويعهم.
2) أعتقد المؤلف حذف بقية الحوار الذي قد يكون تضمن رد المناضلتين الجزائريتين على تبريره. فليس من المعقول أن تكونا جاهلتين بالمذابح التي ارتكبها المتوحشون الفرنسيون في بلادهما ضد المدنيين دون تمييز بين الرضع والأطفال والشيوخ والنساء والرجال العاديين. فمنذ سنة 1832 وحتى 1960 ارتكب الجيش الفرنسي الغازي سبع مذابح كبيرة كان ضحاياها آلاف القتلى منهم رضع وأطفال لا تستطيع أسرهم الذهاب بهم إلى “بارات اللبن” فأتى إليهم الفرنسيون بالرصاص والقنابل والهلاك. فعلى سبيل المثال، ارتكب الجيش الفرنسي مذبحة مروعة في 20 أغسطس 1955 ببلدة سكيكدة الجزائرية، حشر فيها آلاف الجزائريين، دون تمييز في العمر والجنس والحالة الصحية، بملعب في البلدة وأمطروا بالرصاص وقتل منهم 12000 نفس.
هذا إذا تغاضينا عن قتل 300 جزائري في فرنسا نفسها أثناء قيام العمال الجزائريين بمظاهرة سلمية بباريس سنة 1960 مطالبين بإنهاء الاحتلال الفرنسي ببلادهم، وتغاضينا أيضاعن عمليات الاغتصاب والإذلال.
3) قال المؤلف مخاطبا المناضلتين بأن ” العسكريين عادة لا يصيبون عن عمد دائما وفقط أهدافا مدنية”، وهذه الجملة مرواغة ونفاقية ومتناقضة في ذاتها. فالعسكريون “عادة لا يصيبون عن عمد دائما” يعني أنهم يصيبون عن عمد أحيانا. لكننا لا نعرف كم مرة تتكرر هذه الأحيان وكم عدد الضحيا المسموح به!. ولكن يمكن القول بأن العسكريين الغزاة يصيبون أهدافا مدنية ومدنيين عن عمد، وحتى الحالات التي لا يبدو فيها العمد واضحا، تحدث نتيجة الاستهانة بأهل البلد المحتل وعدم أخذ الاحتياطات لتجنبيهم الأذى والإصابة. وفي هذا السياق تمكن الإشارة إلى مذابح قام بها الجيش الأمريكي، عن عمد، ضد مدنيين عزل في كل من كوريا وفييتنام. فأثناء الحرب الكورية قام الجيش الأمريكي في 26- 29 يوليو 1950 بقصف حشد من اللاجئيين الكوريين على جسر نو غن ري No Gun Ri في كوريا الجنوبية بالطائرات والأسلحة المتوسطة قدر ضحاياها بـ 300 نفس. وفي فييتنام ارتكب الجيش الأمريكي فظائع ضد المدنيين وقصف قرى فلاحين بسطاء بقنابل النابالم. وقد قدرت الحكومة الفييتنامية سنة 1995 حصيلة القتلى الفييتناميين فترة الحرب الأمريكية على فييتنام بـ 5 ملايين، منهم 4 ملايين من المدنيين العزل من مختلف الأعمار. ولاحقا، في لقاء تلفزيوني، قال وزير الدفاع حينها ماكنامارا أن عدد القتلى 3 مليون 400 ألف، دون أن يذكر التفاصيل. كما استخدم الجيش الأمريكي هناك الرش الكيماوي لتدمير وحرق وإتلاف البشر والحقول والقرى، مثل الرش البرتقالي والأزرق والأخضر.
هناك مذبحة شنيعة من نوع مختلف، تمكن تسميتها “مذبحة القتل البطيْ” وهي تلك التي قام بها الاستعمار الإيطالي (والمؤلف إيطالي) في ليبيا. حيث حشد الإيطاليون، في الفترة 1929- 1934) ما يربو على 100000ألف (أي حوالي عشر سكان ليبيا) من مواطني إقليم برقة في 16 معسكر اعتقال جماعي. وتركوهم يموتون بسبب الجوع والعطش والأمراض والأوبئة، ولم ينج منهم في النهاية إلا حوالي 25000.
المشكلة مع الغالبية الساحقة من المفكرين والمؤرخين الغربيين، أنهم عندما يتعلق الأمر بالفظائع التي ترتكبها جيوش بلدانهم خارج الغرب، يمنحون ضمائرهم غفوة. لقد بلغت العجرفة وقلب الحقائق بالبعض أن برروا أبشع جريمة في تاريخ البشرية قامت بها أمريكا، وهي إلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونجازاكي باليابان على أنها كانت مفيدة لأنها أنهت الحرب العالمية الثانية ومهدت للسلام. على حين أن كثيرا من خبراء الاستراتيجيا العسكرية والمحللين يقولون أن اليابان كانت على وشك الاستسلام، وأن أمريكا أرادت بجريمتها، فائقة الشناعة هذه، تجريب فعالية هذا السلاح الجديد.
* مايكل أنجلو ياكوبتشي. أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهره. ترجمة: د. عبد الفتاح حسن. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة. 2009
** الصحيح: ، مجاهدتان. لأنهما في سياق مبن للمجهول. وهذه، طبعا، من مسؤولية الترجمة.