أي حل ليبي ليبي مرفوض حتى إشعار آخر
سالم العوكلي
الدارج في عشوائيات ما يسمى العالم الثالث أن رئيس الدولة المنتخب أو غير المنتخب هو الذي يرفض التخلي عن السلطة، ومحاولة دفع بلاده إلى حرب أهلية تمسكا بمنصبه، ويحدث هذا دائما في الكثير من الدول الأفريقية، وحدثت مجازر هائلة بسبب رفض العديد من الرؤساء لنتائج الانتخابات. لكن رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة يأتي بسابقة، حتى بمعايير الدول الشمولية المتخلفة، ويصبح أول رئيس حكومة يرفض تنحيته ويهدد بحرب أهلية منذ قيام الدولة الليبية قبل سبعين عاما. 11 رئيس وزراء فترة النظام الملكي ــ ثلاث رؤساء وزراء فترة الجمهورية ــ 10 أمناء لجان شعبية عامة فترة الجماهيرية ـــ 6 رؤساء حكومة مرحلة ما بعد 17 فبراير. ما يعني 30 رئيس وزراء سابق لليبيا كلهم تنحوا أو تمت تنحيتهم دون أن يرفضوا أو يثيروا مشاكل.
والمفارق أنه فشل في مهمته الرئيسية وهي تهيئة البلد لانتخابات تشريعية ورئاسية نهاية العام الماضي، ويصر في الوقت نفسه أنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة. فمن اتخذوا قراراً بحجب الثقة عن حكومته بعد أن فشلت في كل مهماتها وفاحت منها رائحة الفساد، ومن شكلوا الحكومة الجديدة، هم السلطة الوحيدة المنتخبة في ليبيا، اتفقنا أم اختلفنا معها، وهو يرفض هذه الشرعية لائذا بشرعية مزيفة جاءته من وليامز ستيفاني كما نسقت لهذه المرحلة الانتقالية الخامسة عبر جسم غريب صنعته بطريقة غريبة، ورغم ذلك كان الجميع في الداخل والخارج يتوقع فوز قائمة عقيلة باشاغا لأسباب عملية، وفي آخر لحظة فوجئ الجميع بالقائمة التعيسة (المنفي/ الدبيبة) التي لم يتوقع أحد فوزها، وفورا ظهرت تقارير من بعض موظفي الأمم المتحدة تتحدث عن شبهات فساد، وعن دفع رشاوي بمئات الملايين من أجل شراء أصوات رجحت هذه القائمة. وكأن لسان حال الدبيبة يقول أنا وصلت للسلطة عن طريق المال ومن يريدها عليه ان يدفع مالا أكثر، مثلما قال سيده وولي نعمته، القذافي، يوما: أنا وصلت للسلطة عن طريق القوة ومن يريدها فليأخذها بالقوة.
فقائمة المنفي/ الدبيبة لو عرضت لانتخابات شعبية لما تحصلت على أكثر من 5% لأن المال الفاسد مهما كان ضخما لن يستطيع شراء ملايين الأصوات، ورغم ذلك سلمت القوائم الأخرى للأمر الواقع، بل أن باشاغا اتصل بالدبيبة وهنأه رغم كل الشبهات التي أثيرت داخل بورصة الفندق للأصوات.
يصر الدبيبة على أن يضمن حق ترشحه للرئاسة لو أجبر على الخضوع لقرار البرلمان في النهاية، وهو الرافض لتسليم سلطة رئيس الوزراء فلو وصل للرئاسة من يضمن أنه سيتخلى عنها؟ ومن يضمن أنه خلال هذا المنصب لن يدعم التشكيلات المسلحة التي تدافع عنه الآن، كي ترفض مستقبلا خروجه السلمي من المنصب، وتظل ليبيا في هذه الحالة دائما على حافة الحرب. فشخصية الدبيبة منطلقها عنصري جهوي، وأثبت هذا منذ أن جاء وابن عمه علي إلى درنة العام 2009 في إطار التعاقد على مشاريع ضمن تنمية وتطوير المراكز الإدارية تخص، واجتمع مع عشيرة واحدة ليمنحها كل العقود، ووقتها أخبرني بهذا الاجتماع المضحك بعض من حضروه من هذه العشيرة وتحصلوا على عقود رغم أنهم لم يعملوا إطلاقا في مجال المقاولات.
بهذا المعنى سيكون وجود الدبيبة في المشهد الليبي عائقا كبيرا أمام أي محاولة للمصالحة الوطنية، وحاثا على مزيد من الانقسام والاستقطاب الذي يقف وراء كل مشاكل ليبيا، والمصالحة الوطنية هي الأولوية التي تجاوزتها معظم المبادرات، وبعكسه تماما يظهر رئيس الحكومة المعينة من مجلس النواب، فوزي باشاغا، رجل مصالحة ينفذها على أرض الواقع، بقدرته على التعامل مع الجميع وتنقله في أقاليم ليبيا حيث لا يستطيع الدبيبة ان يفعل، وهذه سمات شخصية تحتاجها الدول أو المجتمعات التي تمر بحالات استقطاب وانقسام حادة. الدبيبة لا يعد الناس إلا بصكوك كما كان يفعل ولي نعمته القذافي الذي كان يخفف الاحتقان بتوزيع الهبات أو بالوعد بها او توزيع الثروة، بينما باشاغا يعد المجتمع بمصالحة حقيقية مع اتفاق أغلب الأطراف على حكومته بما يمكن تسميتها حكومة وفاق فعلي في هذه الظروف التي يصعب فيها التوافق، ما يشكل فرصة قد لا تتكرر لتوحيد المؤسسات وتقريب الليبيين من بعضهم البعض، والأهم من ذلك حماسه وقدرته على تفكيك ملفات صعبة ستظل تقف حائلا أمام أي وعد بانتخابات قادمة في ظروف طاردة من الأساس لهذه الفكرة، بل ظروف رافضة لنتائج الانتخابات مسبقا إذا لم تأت في صالح الجماعات المسلحة التي يستعين بها أدبيبة الآن لاغتصاب السلطة والبقاء في منصبه.
عادة ما يرجع التشبث الهستيري بالسلطة إلى آفة قديمة تقوض أي مسار لتسليم السلطة سلميا، وهي الفساد، ما يجعل الوالغ فيه يخاف من المحاسبة إذا ما خرج عن السلطة وعن إمكانية إدارة هذه الفساد والتحكم فيه، وحين ذكرت أن الدبيبة أول رئيس وزراء (أو امين لجنة شعبية عامة) يرفض التنحي فإن الأمر يرجع لهذه الآفة من حيث الاستمرار فيها ومن حيث الحماية من عواقبها.
أما رئيس المجلس الرئاسي الذي يعتبر بمثابة رئيس الدولة فلا وجود له في المشهد، ولم يكن منذ البداية إلا أداة حفاظ على الديكور الجهوي للسلطة، ومن جاؤوا به يعرفون أنه لن يكون عثرة أمام انفرادهم بالسلطة وتحكمهم في كل شيء. ومثل ما جمع الدبيبة أفراد العشيرة في درنة يجمع الآن عصابة من مقربيه يحيطون به، ويتقلدون المناصب التي تضمن استمراره في المنصب وفي التلاعب بمصير البلد التي يقودها إلى المجهول.
كنت أتحاور عن طريق الإنترنت مع صديق إعلامي معروف يتابع بطريقته ما يحدث في كواليس ملتقى الحوار الليبي في تونس، وكان قبل ذلك على علم بأن قائمة عقيلة/ باشاغا مرشحة للفوز بقوة، وقبل انتخابات القوائم بساعات قال لي يبدو أن قائمة علي الدبيبة ستفوز وهذا سيكون كارثة على البلد، وأذكر وقتها أني قلت له: لا فارق بينهم جميعا فكلهم جزء من المشكلة، لكن الأيام تثبت أن ثمة فارقا مهما كبيرا كمال قال لي الصديق وقتها، وسلوك الدبيبة الذي يستنفر ميليشياته ويهدد بالعنف وبحرب أهلية إذا ما نُحي عن المنصب، يختلف عن سلوك باشاغا الذي يصر على أن يتم التسليم والاستلام بشكل سلمي، والأهم من ذلك أنه لا يقصي أي طرف من أطراف النزاع في ليبيا. وهذا التوجه هو ما تقف ضده قوى إقليمية مازالت تريد للأزمة أن تستمر لأسباب يتعلق بعضها بحروب الغاز المقبلة، وبعضها بوجود عبد مأمور في العاصمة الليبية على رأس السلطة ينفذ حرفيا إملاءاتها.
الجميع يتشدق حل ليبي/ ليبي، وحين يأتي حل ليبي/ ليبي، فعلا ــ بعد فترة طويلة كانت تشكل الحكومات من خارج ليبيا وتسمى حكومات وفاق أو وحدة وطنية، يعترف بها المجتمع الدولي دون أن يعترف بها المجتمع الليبي وتفرض علينا غصبا ــ حين يأتي هذا الحل الليبي تقف القوى المتشدقة به ضده بما فيها بعثة الأمم المتحدة التي لم تحترم قرارات السلطة الوحيدة المنتخبة في ليبيا في الماضي ولا في الحاضر، وفضلت كل ما يحاك خارج ليبيا عن أي مبادرة تأتي من الداخل.