أوبرا سلطانية
فرج عبدالسلام
أبدأ بالإشارة إلى إدراج نشره صديقٌ على صفحته، يعلق فيه على صورةٍ لمجموعة من الشباب الليبيين من الجنسين يؤدون تدريباتٍ على عرض مسرحي، ووجه التحية لهؤلاء الشباب الذين اختاروا الانضمام للفن بدل الميليشيات، واصفا ما يقومون به أنه مشروع حياة وفن وليس قتل ونفاق.
المفاجئ في الأمر، ورُودُ تعليقات غاية في السلبية على الموضوع حين أبدى البعضُ عدم رضاهم عن الأمر، رابطين كالعادة المسألة بالمعتقد الديني حسب تفسيرهم الضيّق له، وعلق أحدهم بالحرف: “إن الفن ليس بهذه الطريقة، وإنه يرى في هذا تجاوزا عن عاداتنا وتقالدينا وقبلها قيم ديننا الحنيف”
المفجع في الحكاية أنّ صاحب هذا التعليق يحملُ صفة “دكتور” أي أنه عيّنةٌ ممن يعتبرهم الناس من “النخبة” المتعلمة، الذين يسترشدون برأيهم، ويعوّلون عليهم لبناء وطن المستقبل.
وإذا تجاوزنا ما في جملته من أخطاء أسلوبية ولغوية لا تليق، كما يُفترض، بمكانته العلمية، فهو كذلك قد وقع في فخ الخطاب السلفي المغرق في التخلف والعبثية. ولم يلتقط “الدكتور” فكرةَ صاحب التدوينة، الذي يرى في مثل هذه المبادرات المجتمعية الإنسانية أسلوبا لإبعادِ الشباب عن السير في منهج العنف، وأسهل طرقه كما نعرفُ هي الانضمامُ إلي المليشيات التي تغطي مساحة البلاد وتنتشر كما الفطر، فتوقفُ النماء وتقتلُ الحياة وأي أملٍ في مستقبل واعد. ولن نتعرض كذلك إلى هذا المرض “الليبي بامتياز” الذي يَسخرُ، دون تثبتٍ أو دراية، من الآخرين ويتهمهم في أخلاقهم ودينهم.
هذا المشهدُ الليبي القاتم الذي يطارد الفرح والحياة في كافة صورها وتجلياتها، سواء في هيئة فنونٍ بأنواعها، أو ثقافةٍ عامة، حيث لا يزال أصحابُ الفكر الوهابي الغريب عن مجتمعنا وقيمنا الوسطية المتسامحة، يطاردون الفنون والكتب والثقافة العامة لأنّ عقيدة المتطرفين هي نشر الفاجعة وإراقة الدماء باسم الدين والجهاد، بل وحتى تأصيل التخلف كما رأينا عندما جاءنا كبيرهم محاولا إقناعنا أن الأرض مسطحةٌ وأنها لا تدور.
إذا ما قارنّا مشهدَنا الليبي القاتم بآخر في دولةٍ كان صاحبنا السابق ينعتها بـ “مربط الحمير” ومع ذلك لم تتأخر عن استقبال أسرته بعد أن دارت بهم الدوائر، بل وحتى استضافت الليبيين المتناحرين بدون سبب حقيقي، في محاولة للمّ شملهم. هذه السلطنة الهادئة المستقرة تشق طريقها بثبات وحكمة خارجة من العزلة والتخلف، ساعية لرفاهية شعبها واستمتاعهم بالحياة دون غلوّ أو عنف، ومن ضمن الفنون العديدة والثقافة التي ترعاها الدولة وتشجعها، لديهم واحدة من أضخم وأفضل فرق الأوركسترا العالمية التي تضم الذكور والإناث العمانيين، تشنّف أسماع الجمهور بما جادت به قريحة عظماء الموسيقى في العالم…فتهذبُ النفوس وترقى بأحاسيس البشر.
لسنا بحاجة إلى البحث في تراثنا الفقهي عما يجيز لنا تأكيد انتمائنا للبشرية، وحقنا في الفرح بالحياة والتعبير عنه عن طرق الفنون، ولسنا مضطرين كذلك للحصول على مباركة دعاة الكراهية وأصحاب فتاوى التحريم وثقافة الحزن فيما يحق لنا ولا يحق… لكن ما أكاد أراه رغم كل سدول الظلام الكثيفة المحيطة بنا الآن، أنّ بلادنا ستحظى في يوم قريبٍ ما بأوبرا سلطانية تصدح بأنغام الفرح والتقدم والإنسانية.