أنقرة والدوحة وكذبة السلام
سالم العوكلي
رغم التصريحات التي تدلي بها السلطات التركية، عبر خارجيتها أو رئيسها أو رئيس وزرائها، عن سعيها للوصول إلى حل سياسي للصراع الليبي إلا أن هذه التصريحات لا تمت للواقع بصلة، والسبب بسيط وبديهي، فتركيا المتحالفة كليا مع أحد أطراف الصراع لم تستضف أي شخص ممن يمثلون الطرف الآخر (من البرلمان أو قيادات الجيش أو حتى من الأعيان والحكماء) ولم تتواصل معهم أو تدعوهم مرة، ولا أعرف كيف لدولة لا تتعامل إلا مع طرف واحد أن تدعي أنها تسعى للتوافق أو للسلام أو لحل الأزمة سياسيا، بينما كل الدول الأخرى المتدخلة في الشأن الليبي استضافت مرارا الأطراف جميعها مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ومصر والإمارات السعودية وحتى التدخلات الخجولة من قبل الولايات المتحدة تعاملت مع جميع الأطراف. قطر أيضا لم تتعامل إلا مع طرف واحد ، والسبب يرجع إلى أن تدخل هاتين الدولتين لم يكن لأسباب تتعلق بالمصالح بالمعنى الاستراتيجي المفهوم، ولكن بسبب دعمهما الأعمى منذ بداية الربيع العربي لأيديولوجيا الإسلام السياسي، ممثلا في جماعات الأخوان المسلمين في المنطقة كلها. فشلتا في بعض المناطق وأثارتا اضطرابات في أخرى وقلاقل، واستمرتا في التمسك بدعم جماعة الأخوان في ليبيا بشكل منقطع النظير، ولذلك كانت بياناتهما وتصريحاتهما ووسائل إعلامهما مستفزة بشكل كبير للطرف الممثل للشرق الليبي، ومصرتان على أن الشرعية الوحيدة ممثلة فقط في حكومة الصخيرات بينما لم يعترفا بمجلس النواب مع أنه السلطة الوحيدة المنتخبة في ليبيا.
لقد تمكنت هاتان الدولتان تماما في مصر فترة حكم مرسي وبدأتا تتصرفان كأن مصر عزبة تابعة لهما، وشكل لهما التحالف بين الشارع المصري والقوات المسلحة لإسقاط النظام الأخواني صدمة كبيرة خسرا بسببها إمكانية التحكم في المنطقة كلها عن طريق مصر الدولة المركزية، وهذا التحكم جعل أردوجان يذهب إلى مصر ويلقى كلمة كلها أوامر للرئيس مرسي ومكتبه الإرشادي بما يجب أن يفعلوا مستقبلا، وجعلت قطر تطمع في شراء قناة السويس وتأجير الآثار المصرية وتحويل مصر إلى محمية تابعة لها.
ما يجمع هاتين الدولتين أيضا دعمها المعروف للعالم كله للجماعات الإرهابية، وعلاقتهما الوثيقة معها، بداية من جماعات الأخوان وصولا إلى داعش، وهذا الانحراف المعروف تماما لكل متتبع، والمسكوت عنه من قبل دول قوية لأسباب استراتيجية، هو ما يجعل تدخلهما في أي دولة مصدر خطر كبير. لذلك كنت دائما ضد المقارنة بين طبيعة التدخلات، فكل الدول الأخرى التي كانت بشكل مباشر أو غير مباشر تدعم الجيش الليبي والبرلمان هي دول في الواقع تحارب الإرهاب وليست حاضنة له، ولهذا السبب تعاملت مع أطراف النزاع في ليبيا دون أن تخفي انحيازها للطرف الذي تعرف جيدا أنه يحارب الإرهاب، وبالنسبة لهم إذا ما تخلى الطرف الآخر عن احتضان الميليشيات الإرهابية فسيكون خيارا أفضل حتى بالنسبة لمصالحهم. أما ما أعطى الضوء الأخضر لتركيا وقطر كي تتدخلان بهذا الشكل السافر في الملف الليبي هو الدور غير الجاد أو الضعيف للولايات المتحدة، لأن الجميع يعرف أن لا دولة يمكنها أن تلجم وتأمر نظامي تركيا وقطر إلى الولايات المتحدة.
إعلان وقف الحرب أو إطلاق النار دائما يشكل خبرا مفرحا لأي مجتمع يعاني من ويلات الحرب، وحقيقة التدخل الأمريكي الجاد (تحت الطاولة) هو ما يكمن وراء ظهور البيانين الأخيرين اللذين فاجآ الليبيين بقدر ما فاجآ الكثير من المتتبعين من العالم، فحكومة الوفاق لا يمكنها أن تصدر بيانا أو تصريحا إلا بموافقة أنقرة والدوحة، وأنقرة والدوحة لا يمكنهما أن توافقا على وقف إطلاق النار إلا بضغط من الولايات المتحدة، وهذا ما يبدو أنه حصل في الأيام الأخيرة وأرغم حتى الأصوات المتعنتة في الشرق الليبي .
رغم الخبر المفرح إلا أن السيناريو يبدو غائما ومقلقا . فنحن نعرف أن ثمة ثلاث ملفات لابد أن يبث فيها قبل الشروع في أي استحقاق لبناء الدولة وهي : تفكيك الميليشيات واحتكار السلاح من قبل المؤسستين العسكرية والشرطية، والقبض على رؤوس الفساد المتحكمة في مفاصل الدولة ، والمصالحة الوطنية . وهي نقاط متداخلة لا يمكن تفعيلها جميعا إلا بعد تفكيك الميليشيات وإلا سيكون السيناريو المظلم شبيه بما حدث في العراق حين ترك الجيش الأمريكي العراق في قبضة الميليشيات وإيران، وفشلت كل مشاريع بناء الدولة العراقية لأن الميلشيات مازالت أقوى من الجيش وبالتالي فلا قيمة لأي دستور أو انتخابات أو أي شكل براق من أشكال الدولة المدنية مع تغول الميليشيات، والأمر ينطبق على لبنان، فكل الحكومات تفشل مرارا لأن سوس الميليشيات منتشر في الدولة ، وهذا هو السيناريو الذي أتوقعه وأخشاه في ليبيا. الطرف الآخر متحمس لإجراء الانتخابات بل وحدد موعدها بعد 6 أشهر ومأتى هذا الحماس هو وجود الميليشيات كسلطة ضامنة مهما كانت نتائج الانتخابات، ومعرفتهم أن أي حكومة أو مجلس رئاسي قادم سيكون مشلولا تماما أمام هذه الميليشيات التي تسيطر على قوت الليبيين والمؤسسات السيادية،. خصوصا وأنها الآن اصبحت أكثر قوة بعد حمايتها لطرابلس إلى أن تدخلت تركيا والمرتزقة السورية، كما أنهم يحاولون بالدعوة إلى انتخابات في وقت مبكر الاستفادة من حالة الاستقطاب الجهوي الليبي الحاد لإمكانية الحصول على أصوات قبل أن يهدأ هذا الاستقطاب.
لسنوات طويلة كان السعي لتفكيك هذه الميليشيات بشكل سلمي وإدماجها في المؤسسات الليبية لكنها كانت تزيد عددا وقوة أثناء كل هذه الفترة، ثم جاء الاتفاق السياسي الذي كان شرط تفعيله الوحيد الترتيبات الأمنية وتفكيك الميليشيات قبل أن يباشر عمله في بناء الدولة، لكن الذي حدث أن تحول المجلس الرئاسي (الممثل للغرب الليبي فقط) إلى جناح سياسي لهذه الميليشيات ومشرعن وداعم لها، ثم جاءت محاولة تفكيك هذه الميليشيات عسكريا بعد توجه الجيش إلى طرابلس وفشلت أيضا هذه المحاولة بل وزادت من قوة ونفوذ هذه الميليشيات التي أصبح تفكيكها الآن شبه مستحيل.
خبر إيقاف إطلاق النار على كل الأراضي الليبي مفرح، ورغم انه مازال في إطار تفاهمات مبدئية، إلا أنه من جاب آخر سيضع ليبيا أمام مصير كارثي وهي دولة الميليشيات التي يمكن أن تقوم فيها انتخابات رئاسية وتشريعية وتشكيل حكومات متعاقبة وصياغة دستور لكن الدولة لن تقوم أبدا رغم هذا الشكل الذي نرى مثله في العراق ولبنان، مع توقع صدامات مسلحة مستمرة لكما تضاربت مصالح هذه الميليشيات مثلما كان يحدث في طرابلس طيلة السنوات الماضية.
لقد عاش الليبيون بين مخاوف الدولة الدينية والدولة العسكرية بعد أن سرقت دولتهم التي أعلنوا عنها في انتخابات السابع من يوليو 2012 . لكنهم الآن أمام سيناريو معتم وهي دولة الميليشيات بغطاء ديني، ولعل مسودة الدستور التي قدمت للبرلمان توضح طبيعة هذه الدولة الشمولية الدينية، وهذه المسودة، والاتفاق السياسي المشؤوم، وإجهاض كل مبادرة لحل الأزمة وإجهاض كل المؤتمرات الدولية، وكل ما حدث من كوارث لليبيين، كانت تقف وراءه دولتان لا ثالث لهما تركيا وقطر (وهذا ليس غريبا فهاتان لدولتان هما سبب الانقسام الفلسطيني وهما الراعيتان له) وهم الدولتان الوحيدتان اللتان لم تتعاملا طيلة هذه السنوات إلا مع طرف واحد ولم تعترفا إلا بطرف واحد بينما باقي الدول كانت تدعم الطرف المحارب للإرهاب دون أن تتخلى عن اعترافها بالحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، وهذا مبدأ أخلاقي في حالات التدخل لم تتمتع به سلطات أنقرة والدوحة ولو لمرة واحدة.