أمينة هدريز لـ 218: النقد في ليبيا منعزل عن المشهد الثقافي
خلود الفلاح- 218
ترى أستاذة النقد بجامعة صبراتة أمينة هدريز أن هناك تجارب شعرية ليبية بدأت تفرض نفسها، تتدفق شعريتهم من واقع تجربتهم الحياتية. وأشارت في كتابها (جدلية الحبس والإبداع في أدب السجناء)، أن القصيدة التي كتبت داخل الزانزينلكُتاب ليبيين من جيل السبعينيات لم تكن مجرد أداة توثيقية للواقع فقط بل كشفت عن أساليب شعرية ساهمت في تطور القصيدة الشعرية في الأدب الليبي.
في هذا الحوار تتحدث الدكتورة أمينة هدريز عن واقع الأدب والنقد في ليبيا.
ـ إلى أي مدى كانت التجربة الحياتية ومغامرة التجريب حاضرة في القصيدة الليبية المعاصرة؟
ـ الشعر لحظة شعورية منفلتة تسعى للقبض على الحلم، تتدفق من اللاوعي إلى الوعي، هذا التدفق الشعوري يعبر عن حالة القلق الدافقة للذات الشاعرة التي تنقلها للمتلقي عبر وسائل أسلوبية وحالات فنية هدفها خلق جمالية تثير انفعالا لا تقرر حقائق ووقائع. فالشعر نص الاحتمالات والإمكانات، نص الحلم.
لا تخرج أي تجربة شعرية عن تجربة حياتية بشكل أو بأخر، ولكن دافع تلك التجربة هو خصوصية تحقيق الشعرية والمفهوم الجمالي، فإذا نحج الشاعر في تجسيدها بإمكاناته وقدرته على خلق لغة خاصة بتفجير سكونيتها وخلق حركة داخلها تتحقق الجمالية كأسلوب يثير فينا انفعالات وأحاسيس ممتعة.
التجربة الحياتية رسمت مسار القصيدة الليبية المعاصرة، وكان لتجارب الشعراء وطرقهم الفنية الأثر الكبير في خصوصية التجربة الشعرية المعاصرة نلاحظها عبر تطور القصيدة وتحولاتها على مستوى التركيب والدلالة وعلى مستوى رؤاهم. في تتبعنا لتلك التجربة نرصد التحولات التي طالت القصيدة منذ بدايتها عند رواد الشعر الليبي الحديث مرورا برواد الحداثة الشعرية بتأسيس رؤى شعرية كانت معبرة عن واقع عاشه هؤلاء الشعراء، سريان تطور القصيدة نلمسه من خلال جيل من الشعراء والشاعرات تتدفق شعريتهم وأحلامهم التي رصدوها من واقع تجربتهم الحياتية، تجارب شعرية بدأت تفرض نفسها، أراها امتدادا للتجربة الشعرية الليبية الحاوية والمعبرة عن واقع عاشته الأجيال السابقة، تطور تسرى دماؤه في مفاصل القصيدة عبرّ عنه جيل من الشباب والشابات كانت القصيدة الشعرية ضاجة برؤاهم وتجربتهم.
ـ ما هي وظيفة الأدب؟
ـ وظيفة الأدب هو التعبير عن الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والأيديولوجية والحضارية في المجتمع حسب رؤية أو فلسفة كل جيل أو عصر من العصور، فالأدب هو وعاء لإبداع المبدعين، إذ يفسح المجال واسعا لطرح قضاياهم وانشغالاتهم في تعبيرهم عن واقعهم من خلال حالات الصراع التي يعيشونها في بحثهم عن ذواتهم، وتحقيق أحلامهم، فالأدب هم الوسيلة التي يرسم الأديب من خلالها خطوط مسارات تجربته في بحثه الدائم عن ذاته والتعبير عن قضاياه الحياتية، بشكل فني واختيارات أسلوبية تميزه عن غيره، وظيفة الأدب هي نقل تلك التجارب التي تعيشها الذات المبدعة في شوقها لحرية تستطيع من خلالها تحقيق ذاتها في صراعها مع واقعها برؤية خاصة للفن والحياة.
الأدب يعكس واقع الأجيال عبر العصور من خلال رصد انشغالاته فهو صورة نابضة عن حركة الإنسان في الزمان والمكان، فطبيعة العلاقة الوطيدة بين الأدب والواقع نجدها في تحولات تشكل الأدب عبر العصور، هذه التحولات تعبر عن الرؤى والمفاهيم المتجددة في الحياة، لذا نجد لكل جيل رؤيته الخاصة للفن والحياة وهو مسار طبيعي يرصد واقع التحولات في البحث عن الذات في انشغالاتها المعبرة عن فلسفتها ورؤيتها للأشياء.
ـ في كتابك (جدلية الحبس والإبداع في أدب السجناء). تناولت تجربة كُتاب ليبيين من جيل السبعينيات عاشوا تجربة السجن. ما الذي ميز تلك النصوص؟
ـ تجربة أدب السجون، التي تناولت أدب جيل السبعينيات تميزت بخصوصية التجربة، فالكتابة في ظروف غير مواتية داخل الزنازين تعد تجربة فريدة فقد كشفت عن الظروف الصعبة التي عاشها أدباء السجن، حيث تميزت خصوصية هذه التجربة في أنها رصدت طريقة تخلق نص إبداعي يواجه أشكال العنف والقهر، في ظروف سجنية قاهرة وفضاء مغلق عبّر عن ثنائية القمع والتمرد، التمرد على ذلك الفضاء بالانفتاح على الإبداع وتحدي الواقع المرير، من خلال إنتاج نص إبداعي رغم الظروف السجنية القاهرة الذي كان الملجأ والمنقذ لهؤلاء الأدباء من قساوة أوضاعهم داخل الزنازين، فتحدوا القهر بالإبداع. عبّر هذا الأدب عن جدلية الحبس والإبداع من خلال ثنائية القمع والحرية بدلالات متنوعة وبأشكال فنية تؤكد على العلاقة الجدلية بين التقييد والمنع، والحرية والانطلاق.
خصوصية التجربة السجنية أظهرت مستوى قصيدة كتبت داخل الزنازين من خلال تطور أدواتها الإبداعية والرؤيوية، فعلى مستوى دلالاتها نجد أن تلك النصوص رصدت واقعا سياسيا واجتماعيا وإنسانيا، فعبّرت عن لحظتها التاريخية، وكانت شاهدة على فترة زمنية من تاريخ ليبيا المعاصر، لم تقتصر مدونة السجن الشعرية على رصدها لواقع السجن وتصوير معاناة الشعراء داخله، ولم تكن مجرد أداة توثيقية لواقع سياسي أو سجلا تاريخيا لأحداث ووقائع القمع والتعذيب في مرحلة معينة من تاريخ ليبيا المعاصر، بل انطوت على أساليب شعرية معاصرة كشفت عن تطور القصيدة الشعرية في الأدب الليبي وتجليها عند شعراء السجن، فقد انتج هؤلاء الشعراء نصوصا شعرية تخضع لشروط الحداثة في بناء قصائدهم بأساليب شعرية معاصرة بوعيهم بمفهوم تطور الشعر الغنائي الانفعالي الذاتي إلى مفهوم أكثر قابلية للبناء الدرامي وتعدد الأصوات.
ـ ما أبرز التحولات التي شهدها الأدب الليبي خلال فترة الحرب والفوضى؟
ـ أبرز التحولات التي شهدها الأدب الليبي خلال فترة الحرب والفوضى، التخلص من سيف إكراهات أيديولوجية النظام الحاكم من ناحية مما ساعد على توسيع أفق حرية التعبير والإبداع وانفتاح تجارب فنية وإبداعية على نطاق أوسع، فالتخلق الإبداعي وجد براحا أوسع وحرية أشمل، اتاحها التغيير السياسي والتحولات الجذرية في التركيبة الديموغرافية وما خلفته من فوضى عارمة على جميع المستويات.
حرية الإبداع وطرح الأفكار والرؤى أصبح متاحا في غياب سلطة مباشرة، كذلك الانفتاح على فضاء المعلوماتية وشبكة الاتصال بالأخر وفرصة النشر على مواقع التواصل الاجتماعي، فرض واقعا أدبيا جديدا،حيث نجد أن هناك محاولات جادة للنهوض بالثقافة وإبداعات الشباب لإرساء فكر مستنير وإبداع حرّ، بدأت بوادره تظهر على الساحة الثقافية، إلا أنه اصطدم بعقبات كثيرة وحقيقية وهي التصحر الفكري والتوعي لأغلبية الشباب، وكذلك التركيبة العقلية في الوعي الجمعي مبنية على الاقصاء والتهميش، هذا الإنتاج الإبداعي يحتاج قاعدة معرفية ونقدية جادة تعمل على غربتلته وبالتالي تطوره.
ـ كيف ترين واقع النقد الأدبي الليبي الراهن؟
ـ واقع النقد في ليبيا يعاني مأزقا حقيقيا، حيث يواجه هذا النقد حقيقة ضعف حركته على مستوى الممارسة المنهجية الجادة، إذ نجد البون الشاسع بين حركة الأدب في تطورها وإنتاجها الدائم على مستوى الرؤية والتشكيل في غياب رؤية نقدية يعوزها التكوين الثقافي والمعرفي، والتشبث بأدوات نقدية تقليدية لا تواكب التطورات المعرفية لهذا العلم، ذلك بانتهاج أدوات إجرائية تقليدية في التعامل مع النصوص الإبداعية من باب إعطاء الأولوية لمؤلف النص وتأثير حياته على نصه وصفا تحليليا دون التعمق في دلالات النص، كل ذلك أضعف حركة النقد وترك الساحة للنقد المهادن المبني على حسابات شخصية وهو في حقيقته نقد زائف مقيد بالذاتية والانطباعية وفي أحسن حالاته نقد مؤسس على النظرة الإيديولوجية في بعدها الثقافي أو التاريخي.
لتأسيس حركة نقدية فاعلة تواكب حركة التطور الإبداعي ضرورة ردم الهوة بين الناقد الأكاديمي والناقد المثقف، أغلب الدراسات النقدية في المؤسسة الأكاديمية وفي الدراسات والبحوث الجامعية تعاني تشرذما بين إجراءات مناهج تقليدية في تعاملها مع النص الإبداعي وبين تيارات نقدية للنظريات الحديثة، حيث اتسمت بالتخبطية في رؤيتها النقدية واصطدمت بالمصطلح الحديث الذي أصبح واجهة نقدية دون أن يكون له أساس ابستميولوجي في تعاملها معه إجرائيا، إلى جانب انعزالها عن الواقع الثقافي للمشهد النقدي الليبي جعل الممارسة النقدية خارج المؤسسة الأكاديمية تنحصر في أغلبها في مستوى النقد الصحفي الذي هو في حقيقته يعتمد على تقديم بعض الكتب الإبداعية من خلال الكتابة السريعة عنها باختيار منجز أدبي يعد في الحقيقة سبق صحفي يتم التركيز فيه على تقديم المساعدة للقارئ في إبراز بعض السمات الأساسية لهذا الإبداع، ذلك لأن مرجعيته انطباعية ووجهة نظره ذاتية تصف العمل الإبداعي وصفا لا يضيف ولا يقيم النصوص في دلالاتها وقيمتها الفنية، فالنقد الصحفي نقد انطباعي لا يجد صعوبة في فهم النصوص واحاطتها بالأحكام التعبيرية واللغوية الجوفاء.
ـ هناك من يرى أن المرأة الكاتبة تؤثر التوجه نحو الكتابة الإبداعية وفي مقدمتها الرواية والشعر في حين تبدو جهودها في حقل النقد الأدبي بسيطة. كيف ترين المسألة؟
ـ تنطلق الكتابة الإبداعية من موهبة يمتلكها الأديب، فالأمر لا يخضع لاختيارات بقدر ما يخضع لإكراهات ذاتية وكفاءة فطرية تجسد محمولات فكرية ورؤيوية، للخطاب الإبداعي والخطاب النقدي على السواء، في تصوري أن الخطاب الإبداعي أوسع انتشارا من الخطاب النقدي، ويرجع ذلك لطبيعة العمل الإبداعي النزاع للحرية المطلقة والتحليق في آفاق جديدة دون أن تحده أو تقيده حدود من خلال تفاعله المستمر مع محيطه، بينما الخطاب النقدي هو إبداع على إبداع أي نص مواز للنص الإبداعي يستخدم اللغة أداة للتحليل والتفسير وتقييم الجمالية، النص الإبداعي حرّ طليق والنص النقدي مقيد، ولكل منهما مجاله ومريدوه.
ـ هل يمكن القول إن الرواية من أكثر الأنواع الأدبية تطورا وتجددا وقادرة على تطويع أساليبها حتى تكون في مستوى لحظة التحولات. وأن الشعر تراجع لصالح الرواية؟
ـ نعم يمكن القول إن الرواية تعد من أكثر الأنواع الأدبية تطورا وتجددا، فقد احتلت الرواية موقعا جديدا في الأدب الليبي المعاصر على (مستوى الكم على أقل تقدير) ونرى تصاعدا واضحا من خلال إنتاج الروائيين والروائيات. فقد برز هذا الفن في فترة ليست بالطويلة وتوسع دائرة مخاطبيه إذ أصبحت منافسه للشعر ذلك لقدرتها على استيعاب التحولات المتسارعة في الواقع ورصدها لمختلف الأفكار والقيم الإنسانية والرؤى الفلسفية والاجتماعية والإيديولوجية، نظرا لطبيعة هذا الجنس التركيبية التي لها قدرة على استيعاب خطابات مختلفة تضمنت في بنيتها التركيبية وشكلت دلالاتها الفنية من خلال انفتاحها على مختلف الأجناس الأدبية الأخرى.
ـ هل لتخصصك الأكاديمي أثره في بلورة رؤاك النقدية؟
ـ الممارسة النقدية هي بالأساس كفاءة معرفية تنبع من موهبة أو قدرة فنية وهو ما يطلق عليه بالذائقة الفنية، وحتى لا يغرق الناقد في رؤيته الذاتية (الذائقة الفنية) يجب أن يقيدها بالمنهجية العلمية الدقيقة ويتمكن من أدواته الإجرائية ويطبقها بشكل احترافي، أكيد تخصصي الأكاديمي مكنني من القبض على الأدوات الإجرائية للمناهج النقدية وتطبيقها بشكل علمي ودقيق على ما أتصور لأنني أومن برؤية تقييد الذائقة بالمنهجية العلمية.