أطروحات الإسلاميين التونسيين.. سلفية الأكاذيب
الكاتب فرحات عثمان يرى أن الإسلاميين في تونس يقومون بتزييف المفاهيم والكلمات لتكون في خدمة أغراضهم وأهدافهم.
حسونة المصباحي
قراءات مستفيضة وعميقة لمجمل أطروحات الإسلاميين في مجالات الدنيا والدين، يقدّمها الكاتب التونسي فرحات عثمان في كتابه “فتوحات تونسية”، منتقدا ومقارعا إيّاها بالحُجج والأدلة الرصينة والدقيقة. يأتي هذا الكتاب مختلفا عن جلّ الأدبيات التي آل أصحابها على أنفسهم مهمة الرد على الإسلاميين إلاّ أنهم سقطوا في السطحية والابتذال وغلب على ردودهم التشنج والانفعال.
يضمّ كتاب “فتوحات تونسية”، الصادر عن دار تبر الزمان، يوميات كان المؤلف نشرها في رمضان 2016، محاولا من خلالها رصد الحياة السياسية والدينية، وساعيا إلى مدّ التونسيين بمختلف مراتبهم بأفكار تساعدهم على مواجهة التطرّف الديني الذي استفحل في البلاد التونسية ليصبح مهددا لأمنها واستقرارها.
أما الهدف الآخر فهو الكشف عن المخاطر الجسيمة المتمثلة في ما سماه فرحات عثمان بـ”سلفية الأكاذيب” التي تفشت بعد اندحار الفكر الإسلامي النير لتغزو المجتمعات وتفسد الحياة الدينية والسياسية وتنحرف بالإسلام عن مبادئه الحقيقية ليصبح وسيلة لإشعال الفتن وإذكاء النزعات والخلافات بين المسلمين أنفسهم.
مسترشدا بمقولة ابن حزم الأندلسي ”المجتهد المخطئ خير من المقلّد المصيب“، يشير فرحات عثمان إلى أن عيب الإسلاميين التونسيين الأول أنهم يستندون في كل أطروحاتهم إلى المسلمات التي يغيب عنها الاجتهاد والتمحيص والاحتكام لمعطيات الواقع. وهم يُسقطون هذه المسلمات على الحاضر والمستقبل ليشلّوا كلّ جهد فكري أو عملي بهدف فحص الواقع انطلاقا من معطياته الخاصة به، وليس انطلاقا من التهويمات والفتاوى الفقهية.
والعيب الثاني للإسلاميين هو عدم اعتمادهم على المراجع الدينية التونسية المناهضة للتطرّف والعنف، والمحرّضة على التسامح والاجتهاد، والتمسك بمعطيات الواقع في تحولاته. وقد تجسدت هذه المراجع من خلال شيوخ جامع الزيتونة أمثال محمود قابادو ومحمد بيرم وسالم بوحاجب ومحمد النخلي، والعديد من الشيوخ الأجلاّء الآخرين الذين عاضدوا أول حركة للإصلاح والتحديث التي برزت في أول النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
الإسلاميون في تونس لم يتنصلوا فقط من المراجع الدينية التونسية، بل أيضا من المراجع الأخرى المتصلة بالتاريخ، وبالمجتمع وبالثقافة وغير ذلك. وفي أطروحاتهم النظرية هم يتحاشون دائما ذكر الشخصيات التونسية الكبيرة التي لعبت أدوارا هامة سواء في المجال السياسي أو الفكري أو الأدبي أو الفني
وتزعّم تلك الحركة خيرالدين باشا التونسي صاحب كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”. ورغم العراقيل التي تعرّضت لها، حققت الحركة نجاحات كبيرة تمثلت في إنشاء أول مدرسة عصرية هي المدرسة الصادقية التي تخرّج منها رموز النخبة التونسية.
بفضل هؤلاء الشيوخ انتشر الفكر التنويري داخل جامع الزيتونة ليتأثر به المناضل الوطني الكبير الشيخ عبدالعزيز الثعالبي صاحب كتاب “رسالة التحرر في القرآن”، والمفكر الإصلاحي الطاهر الحداد الذي دافع عن حرية المرأة في كتابه الشهير “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، والشاعر أبوالقاسم الشابي، وآخرون كثيرون.
كان شيوخ الإصلاح والتنوير في تونس أمثال الشيخ الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل بن عاشور أوّل من رحّبوا بالحركات الإصلاحية التي ظهرت في مصر، وفي بلدان المشرق العربي. وكان لأفكار أصحابها أمثال الشيخ محمد عبده والسوري عبدالرحمن الكواكبي تأثير هام عليهم، لذلك لم يتردّدوا في مساندة حركة التحرر الوطني والانخراط فيها، بل إن الشيخ الفاضل بن عاشور عاضد النضال النقابي بقيادة فرحات حشاد.
بعد الاستقلال، ساند الشيوخ، وفي مقدمتهم الشيخ الفاضل بن عاشور، الإصلاحات التي قام بها الحبيب بورقيبة في مجال حقوق المرأة وفي العديد من المجالات الأخرى، مظهرين اعتدالا ساعد المجتمع التونسي على الخروج من حالة الركود والجمود التي كبّلت قواه على مدى قرون طويلة.
أما الإسلاميون، الذين برزوا في السبعينات من القرن الماضي، فقد تملّصوا منذ البداية من كل المراجع الدينية التونسية المعروفة بالاعتدال والتنوير ليرتبطوا بعلاقات وثيقة بحركات وتنظيمات غريبة عن المجتمع التونسي، وعن تاريخه.
منذ البداية رفض الإسلاميون التونسيون الإصلاحات التي قام بها بورقيبة متهمين إيّاه بـ”الكفر”، وبـ”العداء للإسلام”. وكانت النتيجة أن صار الدين في تونس “في حداد بعد أن تلاعبت به الأهواء وطمس بيرقه الأعداء”.
لذلك لن تعود للإسلام إشراقته الإنسانية، ولن يستعيد بُعدَه التنويري إلاّ عندما تنجلي عن تونس ظلمات الكراهية والإقصاء، والتحريض على التطرّف والعنف والفتنة، وتنتفي “عمليات غسل الدماغ” التي تهيئ للإرهاب المادي، وتشيع التزمت ليصبح المجتمع بأسره مكبّلا بقيود المحرّمات.
ويرى فرحات عثمان أن الإسلاميين في تونس يقومون بتزييف المفاهيم والكلمات لتكون في خدمة أغراضهم وأهدافهم. فالاستشهاد عندهم هو الموت دفاعا عن أفكارهم وأطروحاتهم. أما الشهيد في الإسلام فهو “الشاهد”، أي من “يقول الحق ويأتي بالخير القاطع اليقين دون لومة لائم”، وهو “الضمير الحيّ والفكر العامل جاهدا على إعلاء كلمة الدين بالكلم الطيب والمثل السنّي، ومكارم الأخلاق”. والجهاد الحقيقي لا يعني الموت وإنما العمل على توفير حياة أفضل.
المعارض للإسلاميين هو ليس من الشعب الذي يعني عندهم القطيع الخاضع لهم خضوعا مطلقا يغيب فيه الجدل والنقد والاجتهاد
ولا يتحدث الإسلاميون عن الشعب بالمعنى المتعارف عليه، بل الشعب عندهم هو المسلم المتقيّد بتعاليمهم. أما المعارض لها فهو ليس من الشعب الذي يعني عندهم القطيع الخاضع لهم خضوعا مطلقا يغيب فيه الجدل والنقد والاجتهاد. وكلمة الحرية لها عندهم معنى أخلاقي. فلا حرية من دون طاعتهم، والولاء لهم. أما الديمقراطية فليست بحسب قاموسهم “حكم الشعب”، بل هي “حكم من يحكم الشعب”.
ولأن الشعب لا بد أن يكون مسلما أو لا يكون فإن الحاكم لا بد أن يكون منهم وإليهم. لذلك يلجأ الإسلاميون إلى الخطاب المزدوج للتمويه والتضليل واللعب بعقول من يعتقد أنه يمكن التعايش معهم. وهذا ما مارسوه أكثر من مرة في تونس خلال السنوات السبع الماضية.
صحيح أن فرحات عثمان تمكّن من الردّ برصانة وقوة على مجمل أطروحات الإسلاميين في جميع المجالات المتصلة بالدنيا والدين، إلاّ أنه غفل عن بعض الجوانب الأخرى رغم أهميتها، من ذلك مثلا أنه لم يُشر إلى أن الإسلاميين لم يتنصّلوا فقط من المراجع الدينية التونسية، بل أيضا من المراجع الأخرى المتصلة بالتاريخ، وبالمجتمع وبالثقافة وغير ذلك.
وفي أطروحاتهم النظرية المعروفة والمتداولة هم يتحاشون دائما ذكر الشخصيات التونسية الكبيرة التي لعبت أدوارا هامة سواء في المجال السياسي أو الفكري أو الأدبي أو الفني، لكأن تونس صحراء عقيم لم تنجب بالنسبة إليهم سوى الأقزام، موحين بذلك أنهم هم وحدهم القادرون على أن يمنحوها شرعية وجودها، ويضمنوا إشعاعها سياسيا ودينيا وثقافيا.
وربما لهذا السبب سعوا خلال إعدادهم للدستور إلى تقويض كل المرجعيات لكي يتسنّى لهم فرض أطروحاتهم التي تبدو تونس من خلالها وكأنها بلد بلا هوية وبلا تاريخ، وفيها الإسلام منعدم أو يكاد. لذا وجب “فتحها من جديد”، وسيكونون هم “الفاتحون”.