أبو القاسم المزداوي وبلاد دونها بلاد
سالم العوكلي
“ليبيا طفلة ماكرة
قابلتنا بشراسة في نصف الرحلة الأولى
لتغفو كقطة سيامية في كهوف الجبل الأخضر
هيا قومي يا ليبيا ناوشيني قليلا
كي أغيظك كثيرا وأحبك أكثر
اكتبيني حرفا في كراستك الصغيرة
واطلقيني أشواقا حارة وفراشات
ملونة للأصدقاء في البلدان البعيدة
ارسميني أخدودا على وجه يوسف
المكابد لتعب الرحيل بعينين ترنوان
من فوق سطوة العمر للمحطة القادمة
ضميني يا ليبيا يا أمي وقت الجد واللعب
ولا تنسي بأنك الطائر الذي سيُبعث من الرماد
يا بلادا دونها أي بلاد”
من قصيدة (عروس الياسمين التي يهديها الشاعر أبو القاسم المزداوي إلى يوسف الشريف وليبيا المسماري، يرصد فيها أوجاع ولذات رحلة برية من طرابلس إلى درنة التي ينعتها بعروس الياسمين، في زمن كان الطريق متاحا وكان اليقين بأن ليبيا ستنهض كالفينيق من رماد السنين العجاف، وكأي شاعر من جيله كان المزداوي حالما بشدة وهو يغوص في تفاصيل اليوم والمكان بقصائده التي لا تعكس نكهة المرارة فيها روحه المحبة للضحك والفكاهة، وبنبع من الضحك في داخله لا يجف كان قادرا دوما على ترويض مشقة رحلاتنا البرية صوب الشعر في هذه البلاد الشاسعة القاحلة.
حين قابلته للمرة الأولى، منذ عشرين عاما في بنغازي، أحسست بعد عشر دقائق كأني أعرفه منذ سنين، لأنه دائما كان يخبر أقصر الطرق إلى قلوب الآخرين عبر إطلاق سراح كل ما في داخله من ألفة ومرح دون توجس. الآخرون الذين حتى لو غادر وعيهم لن يغادر وجدانهم .. وما الذي يولد الألفة بسرعة البرق أكثر من إنسان همه أن يضحك ويدفع المحيطين للضحك.. كان يضحك وعلى ظهره سنم من الدموع كما يقول الماغوط، مناكفا كل من حاول أن ينغص عليه هذه الهبة.
وطيلة تلك الفترة كنت دائما قريبا من بالقاسم المزداوي الإنسان ومختلفا معه في كثير من الآراء المتحمس لها، وهو الاختلاف الذي كنا نحيله إلى ملعب للتهكم وإنتاج الفكاهة، ولم يؤثر في علاقتنا بل كان يزيدها غبطة، واستطعنا عبر هذه الأمواج المتلاطمة على شاطئ هادئ أن نعمق هذه العلاقة وأن نتبادل التعليقات المستفزة والشتائم بغبطة تتبعها قهقهة تحيل كل ما نختلف حوله إلى رذاذ حميم . وكلما وصلت مدينة طرابلس كانت تتجه أصابعي بلا وعي إلى رقمه في الموبايل لأخبره أنني هنا، ولم أجد تفسيرا لهذا السلوك التلقائي سوى أن من يحط في مدينة مثل طرابلس، مزدحمة، ومخنوقة، والجميع فيها مشغولون، يحتاج إلى الشخص الذي أصبح في خلال عشرة دقائق من التعارف صديقاً، والذي سيترك كل ما بين يديه ليصلك، صديق يستطيع بروحه المنسابة دون تحفظ وبكيميائه الخاصة أن يمسح عنك وعثاء الرحلات المضنية في هذه الأرض الوعرة.
سيطرته على الجلسة لا تزعج أحداً، وحتى قطعه للحديث دون أن ينتبه لا يزعج أحدا (لكن حين قطع الطريق لمرة أخيرة دون أن ينتبه أبكى الجميع). مرحه جميل وغضبه دائما مهدد بأول نكتة، وشكواه من القسوة لا تفتأ أن تتحول عتابا.
حينما كنت أهاتفه من درنة وأشتمه دون أن أقول مرحبا كان يضحك، لأنه يعرف أني لن أطلب منه شيئا ينجزه في طرابلس، أما حين أقول له: أهلا يا أستاذ، يرد مباشرة: هيا قول شن تبي من طرابلس، ونضحك معاً، وطيلة تلك السنين كان هذا اتفاقنا وكانت لعبتنا، وكنا لا نمل منها لأنها تؤكد مرارا علاقة مفتوحة تغدو الإشارة لغتها.
بالقاسم لم يعد في طرابلس، وطرابلس يبكي فيها الضحك، رقمه سيظل في مكانه في نقالي، واسمه الأول في القائمة، ليس من ترتيب أبجدي، ولكن لأسباب ذكرتها. ستتجه أصابعي إلى رقمه كلما حللت في مطار طرابلس. حين زرت طرابلس لأول مرة مارس 2012 بعد سقوط النظام، في المطار فتحت موبايلي النوكيا وظهر اسمه لأنه الأول في القائمة فانهمرت دموعي، لأن طرابلس لم تعد كما هي، ليس بسبب العلم المعلق كضحكته في المطار لكن لأن بالقاسم لم يعد فيها، ولأن رقمه الذي مازال حيا في موبايلي مقفل إلى الأبد، وكي أتجاوز تلك اللحظة استدعيت ملامحه الضاحكة دائما في مكان، وما كنت أملك غير هذه التقية كي أروض فجيعة فقد صديق غادر الدنيا بالسرعة نفسها التي يدخل بها القلب.
ماذا سأقول له الآن وهو هناك، ربما يضحك الملائكة التي كانت تضحكنا صغارا، ماذا أقول له عن بلدته مزدة الفخور بها وبما تنجبه دائما من مبدعين، هل سأقول له، كما لم تتوقع يوما أصبحت فضاء لحروب قبلية وأصبح الرصاص المنتشر في ليبيا كلها جزءا من إيقاعها اليومي، بلدة بالقاسم وحسين المزداوي وأحمد إبراهيم الفقيه وغيرهم مما عانقوا الوطن بوجدانها وإلهامها، وحدها في جنوب العاصمة المشغولة بهمها تقاوم زحف الصحراء والتوحش والتعصب الذي أصاب أجزاء ليبيا كلها وجعلها مسرحا للقتل والخطف والتعذيب. ماذا أقول له عن وطن طالما كان نرجسيا في قصائده، وهل سيكفي حبه للفكاهة والمرح لترويض كل الحزن الذي يلوح في عيون الليبيين، بعضه خيبة وبعضه ندم، وكثير منه غضب مكبوت من كل من سرقوا الفرح وحس الفكاهة والأمل من شعب خرج يوما إلى الميادين ليشعل فتيل الحلم فاشتعل فتيل بارود لم يتوقف حتى الآن.
كان صديقي وصديق الجميع بالقاسم المزداوي مزيجا رائعا من الورع الذي يكتب به قصيدته النثرية، ومن الحزن بعد فراق أم أبنائه الذي ما استطاع أن يتغلب على حسه الفكاهي ولا على رغبته في إضحاك من حوله رغم ما يثقل قلبه.
عليك ألف رحمة صديقي بالقاسم وكم يفتقدك الأصدقاء في وقت أصبح فيه الضحك نوعا من البكاء.
سالم العوكلي