آدريان بلت وإعـادة بنــاء ليبيا
د. محمد محمد المفتي
مع بداية سنة 2021 … بدأت وأقول بدأت فـقـط .. في قراءة كتاب ‘‘ استقلال ليبيا والأمم المتحدة ’’ تأليف الدبلوماسي الهولندي آدريان بلت (1892 – 1981) المبعوث الأممي الذي أوفدته الأمم المتحدة لتهيئة ليبيا للاستقلال، وقـام بترجمـتـه د. زاهي المغيربي … كتاب ضخم في مادته وحجمه ( 1740 صفحة في أربع مجلدات) ، فـمـن لم يقرأه في زمن الكورونا لن يجد له الوقت أبدا.
يؤرخ الكتاب بتفصيل مسهب للعامين الأخيرين قبل إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951، و ثمـة شبه كبير بين ما حققه بلت وزملاءه، وبين ما تحاول تحقــيقه السيدة ستيفاني ويليامـز الآن، بكل التعثرات والجـدل.
لكن الكتاب أكثر من مجرد عرض لجهود دبلوماسية دولية، إذ يـوثــق لحقبة حاسمة في تاريخ هذا الوطن السياسي والاجتماعي. بل ويسجل مؤلفه المغرم بالتفاصيل صورا لحال ليبيا وأهلها في تلك الحقبة المبكرة من العوز والتخلف، ويسجلها بحس خفيف الدم، فلن يفوته مثلا أن يخبرنا أن قاعة اجتماعات اللجنة الدولية كانت قاعة المطعم في الفندق الكبير بطرابلس ووضعت حول المنضدة ” مقاعد خشبية بظهور مستقيمة مصممة .. لمنع النعاس في أيام القيظ “.
ويبقى وصف رحلات اللجنة الدولية لكل مدن وواحات ليبيا واجتماعهم بأعيانـهـا وممثليـها من أهم جوانب الكتاب التي لا تخلو من الطرافة. ويخبرنا مثلا أن متوسط تكاليف طعام وإقامة كل فرد من أعضاء اللجنة الدولية كان 3 دولار يوميا، ذلك أن بلت قاد فريقه الأممي بمن فيهم سفراء ومندوبي دول كبرى، قادهم عمليا في رحلة شــبه – كشفية ، جهز لها باسـتعارة 3 خيام، و30 سرير و60 بطانية .. الخ من قاعدة الملاحة الأميركية بطرابلس. واستمرت زيارة الوفد الدولي إلى فـزان ذلك الزمن، مثلا، سبعة أيام ، لمقابلة الأعيان والمشائخ واستطلاع آرائهم التي يسجـلهـا بلت بدقة.
وفي بنغازي أقام بلت في هوتيل فـيــيـنا ذي الأربع غرف والذي ما يزال مبناه قائما وكنت قد تناولته في فصل من كتابي “هـدرزة في بنـغــازي” قبل سنوات.
لكن ما يدعـو للإعجــاب في كتاب آدريان بلت هـو عمق بصيرته وتفهمه لوجهات نظر الفرقــاء السياسيين وخـلافـاتـهـم، وحرصه على البحث عن حلول توفيقية عملية وقابلة للتطبيق. وبالطبع تركز جهد بلت وزملاءه على متابعة صياغة دستور دولة ليبيا الجديدة.
وأظهر بلت اهتماما نبيلا بمشكلات ليبيا، ونجـح في إقــناع المنظمات الدولية مثل اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية بضرورة مساعدة ليبيا. كما شكلت مجموعات عمل من خبراء في مجالات الزراعة والاقتصاد والإدارة.
لقد استلم بلت بلدا دمرته الحرب العالمية الثانية، فـصنع منها في زمن قياسي دولة حديثة بهياكل إدارية وتشريعات ودستور كفيلة بتسيير الأمور بما يؤمن الاستقرار والتطـور.
وحين تـفـتـح وعي أبناء جيلي كان آدريان بلت قـد اخـتفى مـن المـشــهد السياسي، إلا أن الشارع الذي حـمـل إسمه (الآن شارع الإذاعة) كان طريـقـــنا كل صباح، إلى المدرسة الثانوية .. إلى العـلـــم والمعرفة.
وكل عام وأنتم بخير